ميلياغروس شاعر سوري أثر في أثينا والغرب

لطالما كان المتوسط، واسطة العقد، ولبّ الكتاب، أينما مضيت في العالم، ومهما ابتعدت في الأرض ستجده في الطعام واللباس والعمارة واللغة. وتجده في الأغنية والرقصة وموسيقى المعبد. وكذلك في الخرائط والألوان. وتجده مقبلا عليك حيثما ولّيت وجهك جهة الغرب، فأسماؤه وكتبه وأبطاله القدامى تجدهم في كل جهة من جهات الأرض أمثلة وأقنعة وحكايات للأطفال وأشعارا وأساطير. حتى لكأن الغرب لا يمكنه أن يتعرّف وجوده إلا في مرآة الشرق. وهذا ما دفع مجلة الجديد إلى تخصيص عددها الأخير لعام 2020 للثقافة المتوسطية ورموزها.
لندن - خصصت مجلة الجديد الثقافية اللندنية في عدد ديسمبر ملفا كاملا عن الثقافة المتوسطية، مقدمة فيه، مقالات ودراسات وقصائد مترجمة تضيء مجتمعة على علاقة الثقافة العربية بالثقافة اليونانية، لاسيما في الحقبة الهلنستية التي كان للسوريين القدامى فيها الدور الطليعي المؤسس على مدار ثلاثة قرون متعاقبة منذ أن انتصر الإسكندر الأكبر على الفرس في سنة 332 قبل الميلاد، وحتى حلول الإمبراطورية الرومانية محل الإمبراطورية اليونانية سنة 30 ميلادية.
وضمن هذا الملف نجد ثلاثة مقالات عن الشاعر السوري ميلياغروس الذي عاش خلال الحقبة الهلنستية وترك تأثيرا بالغا في الثقافة اليونانية، والذي يجهله إلى اليوم الكثير من العرب.
شاعر الحب الكوني
يرى الكاتب والباحث السوري تيسير خلف أنه لا شك في أن طبيعة جدارا، تلك الكورة الصغيرة المتوزعة على ضفتي وادي اليرموك، الشمالية والجنوبية، هي التي صاغت ذائقة الشاعر ميلياغروس، مذ كان طفلا، يجوس الوديان والهضاب المحيطة بمدينته، يعابث الفراشات، ويراقب القطعان المنتشرة على السفوح؛ وهي تلتهم العشب، على نغمات شبابة الراعي.
وربما، قضى أوقاتا طويلة وهو يعدّد أنواع الأزاهير البرية المنتشرة على مد البصر، أو يراقب، من مدرج مدينته، بحيرة طبريا، وأشرعة مراكب الصيادين التي تتهادى على صفحة مياهها، وفي الأفق جبل الشيخ المكلل بالثلوج طوال العام.
ولا بد أنه زار الينابيع الحارة في الحمّة، واستحم بمياهها الدافئة مع معلميه ورفاقه في الأكاديمية، حين كان فتى يافعا، وهناك حدثهم المعلم عن عجائب إسكولابيوس في شفاء المصابين بالعلل المزمنة.
ويلفت خلف إلى أن هذه الصور التي لا تزال حقيقة نابضة، في أمّ قيس الأردنية، والحمّة السورية، سوف نجدها مرسومة بعناية في قصيدته الخالدة “الربيع”، ملهمة الكثيرين بعده، من شعراء وفنانين تشكيليين حاولوا مقاربة تلك الروح النابضة الوثابة التي أبدعت وصفا غير مسبوق لقدوم فصل الحب والحياة والجمال.
ميلياغروس هو الشخصية الهلنستية الأدبية الأكثر تنوعاً ورشاقة في التعبير عن فنه بأدوات أدبية مختلفة ومتجددة
مشددا على أن سوريا كوطن لم تكن غائبة عن قصائد الشاعر الذي حطت عصا الترحال به في جزيرة كوس اليونانية، ليس كذاكرة تخييلية فحسب، بل كوعي حضاري ومضمون إنساني أيضا يحفظ كلمة سر سحرية تقال في المناسبات كافة: في قمة الاحتفال، وفي لوعة الحزن والفقد، في لقاء القريب، وتحية الغريب، وفي الوداع، إنها كلمة سلام، التي أودعها شاعرنا كما هي، بلفظها المحبب، في قصيدة عظيمة من قصائد هذا الكتاب.
ويذكر خلف أن ميلياغروس عاش حياته للشعر والحب ولتأمل الجمال وابتكار الصور الغريبة التي لم يألفها شعراء زمانه، ولم يسع طوال حياته إلا إلى كسب قلب امرأة أغرم بها، أو اقتناص صورة جميلة، أو اختزال مشاعره ببضع كلمات حول صديق غاب إلى الأبد. وحتى حين كانت تغادره إحدى النساء اللواتي أحبهن، إلى رجل آخر، تجده يتمنى لها السعادة مع عاشقها الجديد، فقلبه لا يقوى على الغلّ والكره، فحتى عباراته التي توحي بالحقد والانتقام، تخرج منه من باب السخرية والمداعبة لا أكثر. لقد قبل السوريون والمصريون الثقافة الهلنستية بعد فتوحات الإسكندر، طوعا، وأضافوا إليها بعدا محليا فكانت الثقافة الهلنستية، التي جمعت روح سوريا ومصر، بفلسفة وأدب أتيكا، والتي عادت بدورها، (أي الثقافة الهلنستية)، لتؤثر من جديد في اليونان نفسها، ولتغير من وعيها الثقافي والحضاري لذاتها، في عملية تفاعل فريدة، قلّ نظيرها في تاريخ الحضارات.
ميلياغروس كان أحد هذه الرموز التي أثَّرت في الغرب اليوناني واللاتيني، والأوروبي في ما بعد، فعلى الرغم من أنه كان يستخدم اليونانية في كتابة قصائده، إلا أن انتماءه إلى روح وطنه الأول ظل حاضرا على الدوام في شعره، وظلت نزعته الإنسانية التي تلقاها في أكاديمية مدينته الفلسفية، دليله الذي لم يحد عنه طوال حياته، تلك النزعة التي ميّزت أيضا شاعرا آخر، مواطنا له، أطلق على نفسه اسم محب الإنسان (فيلوديموس). ولا شك في أن هذه النزعة نابعة من طبيعة الحضارة السورية الضاربة في العمق، والمنفتحة على الآخر، والتي عبّر عنها خير تعبير، جَداريّ آخر سبق شاعرنا بنحو قرنين من الزمان، ألا وهو الفيلسوف الساخر مينيبوس (منيب)، إذ حفرت فلسفته الزاهدة وسخريته المحببة عميقا في روح شاعرنا الذي أعلن أكثر من مرة انتماءه إلى ذلك الفيلسوف.
والغريب أن الكثير من المستشرقين الذين درسوا هذا المبدع؛ حاولوا تجريده من أصوله السورية بدعوى أن اسمه واسم والده يونانيان، ولكن هذه الطريقة البائسة في الدرس والاستنتاج أوهى من بيت العنكبوت، فإطلاق الأسماء اليونانية على أبناء تلك القرون، يشبه في عصرنا إطلاق المسلمين من غير العرب على أنفسهم أسماء عربية. فميلياغروس كان سوريّ الأبوين، وليس يوناني الأب وسوريّ الأم كما يزعمون، فلو كان والده يونانيا لقال ذلك، ولكنه أشار في أكثر من قصيدة إلى انتمائه السوري، ولو أنه بين الحين والآخر يعود إلى التأكيد على أن العالم كله بلد واحد، وأن الإنسان يأخذ قيمته من إنسانيته وليس من أيّ شيء آخر.
وأخيرا، يذكر خلف أنه لم يكن لهذه السلسلة، “سوريا الهلنستية”، إلا أن تزيّن إكليلها بقصائد هذا الشاعر العبقري الذي لا نكاد نعرف عنه، نحن قراء العربية والمتحدثون بها، إلا النزر اليسير اليسير، ولذلك احتل هذه الأولوية المتقدمة في مشروع ترجمات السوريين الذين كتبوا باليونانية، خلال تلك الحقبة الغنية من التفاعل الحضاري.
الشخصية الأكثر تنوّعا
على الرغم من أن ترجمة الشعر تفقده الكثير من خصائصه، إلا أن مضمون قصائد ميلياغروس ذا القيمة العالية، ساعد في احتفاظ قصائده بالكثير من ألقها حتى بعد نقلها إلى الإنجليزية والفرنسية، وأخيرا العربية على يد الأستاذ عادل خالد الديري، الذي بذل جهدا بحثيا استثنائيا في المقارنة بين الترجمات المتعددة للوصول إلى روح النص، وقد وفّق في ذلك أيّما توفيق. يذكر الباحث عادل خالد الديري كتاب الشاعر السوري ميلياغروس الجَداريّ “إن كنت سوريا: سلام”؛ والذي يبدو كالوردة الزرقاء في الإكليل الشعري الذي أبدعه السوريون خلال الحقبة الهلنستية الممتدة على ثمانية قرون، والسوريون هنا تشمل جميع سكان بلاد الشام في تلك الحقبة التي كانت فيها سوريا إقليما يسبح في فضاء حضاري غنيّ، على امتداد شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ويضيف أنه “في سياق تحضيري للشروع في نقل ما تيسّر لي من أعمال الشاعر ميلياغروس إلى اللغة العربية، انطلقتُ في بحث حثيث عن كل ما طبع ونشر عن الشاعر من أعمال، فجمعتها، ومن ثم قرأتها محاولا استكناه أسلوب الشاعر وفرادة جملته الشعرية، وأعترف بأنني لم أصل إلى المعنى الكامن في معظم القصائد حين قرأتها في البداية، على الرغم من فهمي للكلمات المنصوصة، ولكن، ومع المثابرة، بدأت شيئا فشيئا تتفتح معالم الأسلوب الذي اتبعه الرجل في توصيل صوره الشعرية، كما تتفتح بتلات الزهور”.
ويتابع “فهمت أن الرغبة وإيروس (كيوبيد)، كما أن الحب وأفروديت (فينوس) وسيبريس هنّ مترادفات متطابقة في مفهومه، تحلّ إحداهن محل الأخرى بكل أريحية، بغض النظر عن كونها تختلف من زوايا معينة في ذهن الآخرين. وقد عمدت إلى اعتماد الاسم اليوناني للآلهة التزاما بثقافة الشاعر الهلنستية مع بعض الاستثناءات القليلة، وأدركت أن اختلاف عصر وخلفية المترجمين من اليونانية القديمة إلى الإنجليزية قد دفعت كلا منهم إلى اعتماد مفردة منها، مما صعّب المهمة في البداية، وقد كانت عملية الترجمة هذه تراكمية وتصحيحية، فكلما قرأت ترجمة مختلفة للقصيدة ذاتها تكوَّن لديّ فهم أصحّ لزاوية كانت مبهمة في الإصدار السابق”.
ميلياغروس عاش حياته للشعر والحب وتأمل الجمال وابتكار الصور الغريبة التي لم يألفها شعراء زمانه حينها
ثم يقول “وفي البداية شرعت أترجم من كتاب الباحثين بيتر ويغهام وبيتر جاي اللذين قاما بتقديم القصائد هذه في حلّة شعرية إنجليزية متصرفة، كما أرفقا كل قصيدة بملحق يترجمها ترجمة حرفية من اليونانية. فعملت على فهم المعنى الحرفي للقصيدة اليونانية الأصلية، واستقيت الروح الشعرية الإيقاعية من الإصدار الإنجليزي حتى توصلت إلى ترجمتي العربية”.
ويضيف “بعد الانتهاء من الترجمة والمراجعة قمت بوضع عنوان لكل قصيدة يميز هويتها ويعبر عن روحيتها وفحواها، ممّا سهل عملية تقسيم القصائد إلى مجموعات وتفصيلها في فصول متباينة من جهة الموضوع”.
وفي هذه المناسبة لا بد من التنويه بكتاب الدكتور إحسان الهندي “شعراء سوريا في العصر الهلنستي” الذي نشر فيه تعريفا مهما بشاعرنا ونبذات كثيرة من قصائده استقاها من المصادر الفرنسية.
وذكر الديري أن ميلياغروس بن إيوقراطيس ولد حوالي العام 140 ق.م في جدارا، وهي مدينة تشرف من سفح جبل على بحيرة طبريا، ثم انتقل إلى مدينة صور الفينيقية على ساحل البحر المتوسط، حيث كبر وترعرع، لكنه أمضى شطرا كبيرا من حياته بعدها في جزيرة “كوس” اليونانية المقابلة لشواطئ آسيا الصغرى.
عاش شاعرنا عمرا مديدا، ويجد المؤرخون أنه قد ازدهر واشتهر في العصر السلوقي وما بعده، فمن المؤكد تاريخيا أنه كان معروفا في عهد سلوقس السادس إيبيفانيس نيقاطور والذي حكم بين 95 ق.م و96 ق.م. وتوفي حوالي العام 70 ق.م عن عمر ناهز الـ70 عاما، ويمكننا تحري هذه السيرة ولمسها في قصائده الشعرية التي تحدث فيها عن حياته، فقد دوّن ثلاث سير ذاتية لنفسه بصيغة الإيبيغراما، الأمر الذي استغربه الباحثون لكثرتهم، ويفترض أنه قد كتبها في مراحل زمنية متباعدة من حياته.
جدارا هلنستية الثقافة، سورية الهوية، وعلى الرغم من كونها غير محورية من الجانب السياسي فقد كانت بمثابة أثينا السورية كما يقول الشاعر، امتدت حضارتها إلى الحقبة المسيحية في المنطقة، وكانت نبعا لا ينضب من الشعراء والأدباء والفلاسفة المجددين الخلاقين مثل ميلياغروس ومينيبوس وفيلوديموس. ويبدو أن أهل ميلياغروس كانوا من ذوي اليسار، وهم سوريون يتحدثون أيضا باليونانية.
وعلى الرغم من عدم كتابة ميلياغروس باللغة الآرامية، فإن أصوله السورية تبدو جلية في أسلوب تفكيره وتعاطيه مع الأمور، ولعل واسطة عقد قصائده والمسماة بـ”قصيدة الربيع” مستوحاة بالدرجة الأولى من طبيعة جدارا والجولان عموما بسهوله وهضابه وربيعه الأخاذ والتنوع الحيوي الذي يسكن بيئته.
ويقرّ الديري أنه لا يختلف اثنان في أن ميلياغروس هو الشخصية الهلنستية الأدبية الأكثر تنوعا ورشاقة في التعبير عن فنه بأدوات أدبية مختلفة، وهو في ذلك يتفوق على مجموعة من العظماء والمبدعين غير العاديين.
أشعار شواهد القبور
في مقالها ترى الباحثة أم لوز أن الشاعر ميلياغروس لجأ في العديد من المناسبات إلى أسلوب كتابة الشواهد، الأبيات على شواهد القبور لكي يصف سيرته المهنية، وكأنها محفورة على قبره بعد وفاته. وفي إحدى الإيبيغرامات هذه لجأ إلى أسلوب تحية المارّ بقرب قبره طلبا لرد التحية والوداع من الدنيا، ولكن بطريقة مبتكرة غير مسبوقة، حيث يودع ميلياغروس المارّين بقبره باليونانية ولكن ليست وحدها، بل أيضا بلغتين ساميتين:
"إن كنت سوريا: “سلام”
إن كنت فينيقيا “نيديوس”
إن كنت إغريقيا “خايري”".
وعلى الرغم من أن هذا السلام قد يبدو من الوهلة الأولى كخروج مسرحي استعراضي في عزاء تأبيني للذات، فإننا إذا تعمقنا في نماذج ميلياغروس الأدبية والتأبينية، سنخرج برؤية أهمّ وأوضح، تجعلنا نقدّر هذه الصياغة أكثر، ونعجب بأصالتها وتفرّد أسلوبها.

مجلة الجديد الثقافية اللندنية خصصت في عدد ديسمبر ملفا كاملا عن الثقافة المتوسطية وضمن هذا الملف نجد ثلاثة مقالات عن الشاعر السوري ميلياغروس الذي عاش خلال الحقبة الهلنستية وترك تأثيرا بالغا في الثقافة اليونانية
وتلفت الباحثة إلى أنه من المعتاد في تقاليد المدافن ونقش الشواهد التوجه بالصيغة الخطابية للمارّين بالقبور، ولكن القصيدة ها هنا تمثل امتدادا أدبيا لتوجّه معيّن، ونتيجة لتطور كاتبي شعر الإيبيغراما السابقين لميلياغروس. فقد سبق وحدث أن استعملت الأعراف التأبينية لتطرح السيرة الذاتية للمتوفى، ويفترض أن ميلياغروس قد جاء تاليا هنا من هذه الناحية. فكأنما هؤلاء الأدباء يتحدثون معنا عبر القبور التي نقش على شواهدها إيبيغراما من هذا النوع، كما لو أنهم يلخّصون بشكل خيالي قصة حياتهم تتلوها روحهم الهائمة في عالم الموتى.
وتقرّ أم لوز بأن الفرق الهام يكمن في أن الإيبيغراما هذه؛ كانت تصف حياتهم من خلال الحوارية التقليدية مع الغريب المارّ من أمام القبر، في حين أن ميلياغروس قد وصف بالإضافة إلى الحوارية التقليدية، كلاّ من المدن التي عاش فيها، وعمره الذي مضى، وذكر اسمه واسم وعائلته، ومكان ولادته بأسلوب غير متكلف، وبالتالي غير مألوف في التقاليد الجنائزية. ففي خروجه هذا عن كلاسيكيي نمط الإيبيغراما التأبينية، يصف الشاعر أصوله على أنها عابرة للحدود ومتعددة الثقافات، بدلا من التركيز على الهوية الهلنستية لديه:
"وجوه صور الفاتنة
وأرض جدارا الطاهرة
جعلت منه رجلا،
شواطئ كوس
وكرام الميروبيين
أكرموا شيخوخته".
وعليه، فإن ميلياغروس يؤكد هنا على انتمائه إلى مجموعة العظماء المشرقيين المغتربين عن مساقط رؤوسهم، والمستقرين في جزيرة كوس، وقد ذكر تلك المدن الثلاث: جدارا وصور وكوس، في إيبيغرامين آخرين يركز في كل منهما على مرحلة محددة من عمره: فإحداهما عن مولده وطفولته في جدارا، والأخرى عن شبابه في صور وكهولته في كوس. كما أن خلفيته الثقافية المستقاة من هذه المدن تنعكس بوضوح على خاتمة الإيبيغراما الأخير هذا، حيث يحيي بتحية الوداع التقليدية بالسورية واليونانية والفينيقية، كما ولو أنه يحرص على تبادل المباركة والمحبة مع المارّ من قبره مهما كانت ثقافته أو انتماؤه.
إن توجه ميلياغروس بالسلام مودّعا بالسورية والفينيقية واليونانية؛ هو تذكرة منه لنا بأسلوب شعري بأنه إنسان ذو أواصر ارتباط شخصية مع كل من جدارا وصور وكوس. والأكثر من ذلك، أن تعدد لغات شاهدة قبر ميلياغروس ليس فقط عائدا إلى الجو العولمي في جزيرة كوس، بل هو أيضا مرتبط بتعدد لغات النقوش هناك بشكل عام. وإن معاينة النقوش على شواهد القبور السورية والفينيقية المنتشرة هنالك تسلط الضوء على خلفية الدافع الذي حذا بميلياغروس إلى أن يبتدع هذا الأسلوب.إن الجو متعدد الثقافات هذا يمكن تفسيره من خلال فهمنا لمدى فخر ميلياغروس بهويته السورية من جهة، وتعاطفه مع تيار الفلاسفة الكلبيين في جدارا من جهة أخرى. وسواء آمنّا بأن ميلياغروس كان متحدثا بالسورية (الآرامية) أو بالفينيقية بالإضافة إلى اليونانية، أو لم نؤمن بذلك، يبقى متوجّبا علينا في كل الأحوال أن نفهم هذه الأبيات من المنظور الحرفي والشخصي أيضا.
ولكن، وعلى اعتبار أن الأنباط كانوا حاضرين في جزيرة كوس خلال الفترة التي قطنها بها ميلياغروس، فإن استعماله لكلمة “سلام” ضمن المعنى التوديعي، يذكر جمهوره بالطقس النبطي للتأبين، وكأنهم يودعون المتوفى ويفارقونه. المدهش هو استخدام هذه الصيغة النقشية النمطية في مخاطبة أيّ مارّ.
وتلفت أم لوز إلى أن أسلوب ميلياغروس معقد وراق في آن واحد، ولكنه ليس خياليا أو منفصلا عن الواقع بأيّ شكل من الأشكال، بل ترتبط عبارات توديعه بالمجتمع السوري – الفينيقي على جزيرة كوس، ويبرز الجو متعدد الجنسيات لغرض إيصال سيرة حياة تحكي عن أصله وجذوره، وهذا يتم بأكثر من مجرد ترجمة حرفية لعبارات التحية من اليونانية إلى السورية والفينيقية، بل بالإشارة المستحقة إلى طقوس وأصول كتابة الشواهد لدى هؤلاء.
وتختم مقالها بأن شعر إيبيغراما الخاص بميلياغروس هذا والذي كتبه لكي ينقش على قبره ليس مجرّد خفة ظل وممازحة من ميلياغروس لمن يمرّ بقبره، ولا هو صلاة يدّعي البعض أنه ذكرها في كتابه السابق “الصلوات”، بل هو آية في الأصالة والإبداع.