ميشيل فينافير ينتقد السلطة وأهلها على مسارح فرنسا

أجمل ما في فرنسا هذه القدرة على مطاولة الكبار أيّا ما يكن موقعهم، فلا أحد يعلو على النقد حتى ولو كان رئيس الدولة، كما هي الحال في مسرحية “بيتنكور بولفار” التي عرضت مؤخرا في مسرح “الهضبة” بباريس ولا تزال تجوب مسارح فرنسا. فهي تتناول استغلال الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي مباشرة أو عبر أعوانه، ونفر من الجشعين من أهل السياسة وسواهم، للحالة الذهنية المتردية لعجوز ثرية كي يسلبوها مالها.
الاثنين 2016/02/29
كولاج مسرحي

مسرحية “بيتنكور بولفار” التي عرضت مؤخرا في مسرح “الهضبة” بباريس من تأليف ميشيل فينافير (المولود عام 1927) الذي يلقّب بهنري ماتيس المسرح، لميلِه مِثلَه إلى الكولاّج، وإن كان فينافير يعتبر نفسه أقرب إلى فنان تشكيليّ فرنسيّ آخر هو جان دوبوفّيه، ويفسّر مسعاه بقوله “نقطة الانطلاق توفّرها عادة قطع مفروشة على الأرض يتشكّل تقاربها أحيانا بصورة عفويّة، بدا لي أنها مقاربة أفضل من سواها، إنها سلطة الشيء الراهن”.

هذا الشيء الراهن يتمثل هنا في قضية بيتنكور ومضاعفاتها المتعددة التي شغلت ولا تزال تشغل الفرنسيين. وبيتنكور هذه هي ليليان شويلير ولدت عام 1922 في عائلة موسرة، ورثت عن أبيها الشركة الفرنسية لأصباغ الشعر، التي صارت تعرف في ما بعد بـ“أوريال”، كما ورثت عن زوجها أندري بيتنكور (1919 /2007) الصحافي ورجل الأعمال ورجل السياسة الذي تقلد مناصب هامة في عهدي ديغول وبومبيدو اسمه ووزنه السياسي، وكان مرشحا في عهد ميتران لتقلد رئاسة الحكومة.

في خريف عمرها صارت ليليان شويلير تملك حسب مجلة “فوربس” أول ثروة في فرنسا، وتُعَدّ عاشر أثرياء العالم في الترتيب. بعد ترمّلها، طمع الجميع في ثروتها، بدءا بالمصوّر جان ماري بارنييه الذي أوهمها بحبّه إياها، وانتهاء بإريك فورت أمين خزينة نيكولا ساركوزي مرشح حزب اليمين “الاتّحاد لأجل حركة شعبية”، الذي وجد في قصورها الذهني فرصة لاستدرار ما يلزم لتمويل حملته الرئاسية.

فالأحداث كما نرى معروفة، تداولتها وسائل الإعلام بإطناب بعد أن رفعت فرنسواز بيتنكور ماييرس قضية وجنّدت المحامين لكي تثبت أن والدتها خرفت وما عاد يحق لها التصرف في ثروتها، حقنا للاستنزاف الذي استفاد منه حزب ساركوزي.

فكيف استطاع فينافير أن يبدع منها مسرحية ناجحة، يمتزج فيها الجدّ بالهزل، مع المحافظة على أبطال القضية أنفسهم، كما هم، وبأسمائهم المعروفة في السّجلّ المدني؟

في هذه المسرحية، كما في مسرحياته السابقة كـ“الجيران” و“البوّابون” و“الأشغال والأيام” و“الكوريون” و“11 سبتمبر 2011”، يبدو فينافير ملاحظا يتابع ما يجري في بلده وعبر العالم، ونظرته ليست نظرة عالم اجتماع ولا مؤرخ، بل نظرة كاتب يؤمن بالأساطير والمصائر والتراجيديا.

المؤلف لا يحكم على أشخاصه في المسرحية وإن بدا غير رفيق بهم في كثير من الحالات، بل يصورهم كما هم في الواقع

ينطلق هنا من أحداث معلومة، ليصوغ نصا من ثلاثين قطعة، ليسمو بتلك القضية الإعلامية والقضائية ليجعل منها ملمحا من تاريخ فرنسا، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفنيا. كل الأشخاص على الخشبة تعلوهم مربعات صفراء وحمراء، شبيهة بالميثاق التخطيطي لشركة “أوريال”.

كلهم يمكن أن ينتموا في الوقت نفسه إلى مسرح البولفار الهزلي وإلى مسرح التراجيديا المأساوي، والبطلة هنا أشبه بالممثلة الأميركية غلوريا سوانسن في خريف عمرها في شريط “سنسيت بولفار”، نجمة سقطت من عليائها وفقدت مجدها.

قد أبدعت فرنسين بيرجيه في إهاب ليليان، التي حرص المخرج كريستيان شاريتّي أن يظهرها هنا، لا في هيئة العجوز الخرفة الخرقاء، بل في هيئة امرأة أنيقة تُردّ إلى أرذل العمر، فتفقد أحيانا ذاكرتها أو التحكم في حركاتها، ولكن دون أن تفقد غريزتها وفطنتها، فتبدو مثل أنتيغون هرمة تواجه مصيرا معاكسا، فلا هي تحظى بالعدل ولا بالسلام.

والمؤلف لا يحكم على أولئك الأشخاص وإن بدا غير رفيق بهم في كثير من الحالات، بل يصورهم كما هم في الواقع، فأظرفهم وأفظعهم هو باتريس دوماستر، المتصرف في ثروة بيتنكور، وقد نجح الممثل جيروم ديشان في تصوير جشعه وابتهاجه، وألطفهم وأقذرهم الانتفاعي فرنسوا ماري بارنييه الذي لا يناديه الخدم إلاّ بالمصور، وقد أبدع ديدييه فلامان في تقمصه، مثلما أبدع غاستون ريشار في تقمص الرئيس الأسبق ساركوزي.

حشد من الأشخاص كان يحوم بالثرية العجوز، من ابنتها فرنسواز بيتنكور ماييرس والزوجين فورت إلى المحاسب والخدم ورئيسهم. كلهم يظهرون ويختفون حسب المشاهد، في ديكور لا يحوي أرائك ولا صالونا ولا مكاتب سكرتارية، بل مقاعد أشبه بالمكعّبات للجلوس ومربعات تنزل من المشاجب، لكي يمضي النص في خطية زمنية أرادها المؤلف وتبدأ قبل الأحداث الراهنة بمدة، للدلالة على تواصل سير الزمن في هذه المرحلة من تاريخ فرنسا.

وتستهل المسرحية بصوتين قادمين من بعيد: صوت الحاخام جان بيير ماييرس الذي قضى نحبه في أوشفيتز، وصوت أوجين شويلر مؤسس “أوريال”.

من هنا يقرأ تاريخ امرأة مجنونة بأبيها، قليلة الحب لزوجها، ضعيفة الأمومة، مالت بعد ترملها إلى تبني “فنّانها” المصور بارنييه، فكانت تعطي بلا حساب ويقبض بلا ارتواء. كان يقول

16