"ميثاق".. نقد سينمائي للتشدد الديني في المجتمع المغربي

وظف المخرج المغربي الحسين حنين الحب ليروي قصة واقعية يتكرر حدوثها في المجتمعات العربية المتشددة التي تطوع الدين وفق رغباتها، وهو في هذا الحوار مع صحيفة “العرب” يوضح رؤيته للفيلم وتوجهه السينمائي ونظرته الخاصة للسينما.
رغم أن الأفلام السينمائية باللغة الأمازيغية تعد قليلة مقارنة بالإنتاج السينمائي باللهجة المحلية في المغرب، إلا أن المخرج الحسين حنين اختار أن يكون فيلمه “ميثاق” بالأمازيغية.
يلعب دور البطولة في الفيلم سناء بحاج وسعيد ضريف، ويناقش الأفكار الدينية المتشددة من خلال قصة حب بين زوجين تنتهي بطلاق في لحظة غضب، ولم يكن بإمكان الزوج “عسو” أن يعود إلى حضن زوجته “خديجة” بعد الطلاق بالثلاث، فيضطر إلى البحث عن زوج آخر لها.
يحكي المخرج والمنتج المغربي الحسين حنين عن فيلمه في حوار مع “العرب” قائلا “إن قصة فيلم ‘ميثاق’ في شكلها الواسع هي حول التطرف والتشدد في الدين، وفي شكلها الضيق -وهذا ما أعجبني في القصة وما جعلني أميل إلى تصويرها- تعبير عن مشاعر الحب وكيف تنتصر الأحاسيس النبيلة في كل نزالاتها”.
ويقول المخرج إنه دائما يميل إلى البساطة حيث أن “البساطة في العمل السينمائي أصعب من التعقيد. أتحدث عن البساطة هنا على مستوى الشكل لا المضمون. لهذا السبب أبعاد شخصيات الفيلم بسيطة تشبه عامة الناس، فيسهل على المشاهد التعاطف معها رغم تعارضها مع أفكاره. وما يُظهر هواجس الشخصيات وارتباكها وسلوكاتها غير المتوقعة هو السياق الذي وضعت فيه والحدث المحرك لدراما الفيلم. لأن ما يظهر معدن البشر هو الاختبار وحينما يكون هناك صراع بين تغليب الغرائز والخضوع للأخلاق”.
يتحدث حنين عن أبعاد الشخصيات التي اختارها للفيلم فيقول “بطل الفيلم عسو مثلاً هو شخص ترعرع في وسط بدوي، حُرم من الكثير من الأمور البسيطة التي يحتاجها كل إنسان. تحمل المسؤولية وهو طفل، زار الأوساط الحضارية من أجل البحث عن لقمة العيش فقط. هناك حيث صادق أشخاصا يشبهونه وزرعوا مجموعة من الأفكار والأوهام في ذهنه. تبناها بكل تلقائية وامتزجت بمشاعر الحرمان والضعف لتنشأ عنها تصورات خاطئة عن الواقع. أيقن أن الحياة ليس لها معنى ولا طعم، وأن الحياة الحقيقية تبدأ هناك حيث كل شيء مباح وفي المتناول. بعد ذلك اكتشف الحب، عسو أحب زوجته كثيرًا، كبرت مشاعر الحب في قلب عسو أكثر بعد أن أنجب طفلة جعلت سماءه وردية”.
ويضيف “عسو هو شخصية رجل متشدد في الدين، إلى أن اقترب من التطرف. يحاول تطبيق القواعد الدينية بحذافيرها، لكن حسب تصوره المشوش الذي تغلب عليه نزعة التشدد. يجد عسو نفسه بين مطرقة وسندان بعد أن وجب عليه الاختيار بين الحب أو تطبيق الشريعة كما يراها”.
ويستدرك “أما شخصية خديجة، زوجة عسو، فهي تشبهه كثيرًا. نشأت في الوسط نفسه، لكن هناك عدة اختلافات بينهما كانت ضرورية من أجل خلق التباين الضروري في القصة. نذكر منها أكبر اختلاف يميزها عنه، وهو أنها عنيدة ويصعب التحكم فيها وإجبارها على أي شيء. أما شخصية يوسف، الرجل الأعمى، فيظهر الفيلم كيف جعلت منه ظروفه رجلا أنانيًا وانتهازيًا، فلم يتزوج من قبل بالرغم من بلوغه العقد الرابع من عمره، ولم يسبق له أن عاشر امرأة”.
وفي حديث عن الإبداع الفني عموما شدد المخرج المغربي في حواره مع “العرب” على أنه يرى الإبداع “وجهة نظر، كما يرى الرسام الإنسان والأشياء فيضيف لمسته إلى الموضوع الذي يرسمه، ويرتب الموسيقي الأصوات كما يراها متناغمة والإيقاعات كما يراها قلبه متناسقة. المخرج وكاتب السيناريو يختاران موضوعًا يمسهما ويبدعان مجموعة صور وأصواتا ويرتبانها كي يقربانا من وجهة نظرهما، كل هذا في قالب جمالي يتعاطى معه المتلقي وينتشي بمشاهدته حتى النهاية”.
الإضاءة والصورة بشكل عام يجب أن تعبرا عن مزاج الفيلم، مع عدم الإحساس بوجود إضاءة اصطناعية
ويوضح “رأيت أن الشخص المتطرف أيضًا له بعد إنساني، فهو يُحب ويمكن أن يتعايش، كما أرشدت عسو فطرته إلى عدم إمكانية تخليه عن زوجته وهدم أسرته. على مستوى سرد القصة تبنيت وجهة نظر عسو، فنرى الحياة من وجهة نظره ونرى أنه أحد ضحايا أفكاره وفظاعة ما ارتكبه. يعيش صراعًا حادًا بين حبه لزوجته وابنته وبين خوفه من ارتكاب المعاصي حسب تصوره”.
ويؤكد المخرج أن “البساطة في السينما هي الجوهر؛ حيث أن للفيلم عدة مكونات، منها الإضاءة والإخراج الفني، بإمكانها إضفاء البساطة على الفيلم. من يشاهد الفيلم يتولد لديه انطباع أن ما يشاهده قريب من الحقيقة، وهذا مهم جدا في العملية الإخراجية، يجب أن يصدق المشاهد ما يراه أمامه على الأقل حتى ظهور أول سطر من الجينيريك. وكل هذا يتطلب سلاسة في السرد وانتقالًا ذكيًا بين المشاهد واللقطات واختيارًا دقيقًا للحيز الزمني الذي تدور فيه الأحداث”.
ويتابع “الإضاءة والصورة بشكل عام يجب أن تعبرا عن مزاج الفيلم مع احترام بعض الضوابط، من بينها عدم الإحساس بوجود إضاءة اصطناعية. المزاج الذي تخلقه الصورة للفيلم يصل إلى المشاهد، فإذا كان كئيبًا يُشعر المشاهد بالكآبة والضيق والحيرة التي تشعر بها الشخصيات فيقترب منها أكثر. وإذا كان المزاج الذي تخلقه الصورة لا يتماشى مع النسق العام للفيلم، فسيُخرج المشاهد من أجواء القصة ويشتت تركيزه. طغى اللون الأزرق الداكن والظلمة على كل مشاهد الفيلم، إلا المكان الوحيد الذي كانت فيه الإضاءة دافئة، وهو الغرفة التي كانت تتواجد فيها زوجة عسو وابنته”.
نقاط القوة في “ميثاق” تتجلى في سلاسة السرد، وفي كيفية جذب المشاهدين حتى اللحظة الأخيرة في الفيلم
ويضيف “السينما الوثائقية أقوى مثال لتقريبكم من سبب اختيار حركة الكاميرا في هذا الفيلم التي كانت دائمًا على كتف المصور. لم نستخدم أي حركة من حركات الكاميرا السلسة، التي تتطلب معدات مثل ‘الترافيلينغ’، على سبيل المثال. هذا كان اختياريّا من أجل شعور المتفرج بإخراج يشبه الأفلام الوثائقية، مما يمنح الفيلم طابعًا واقعيّا. وتحقيق البساطة هنا كان صعبا”.
ويقول “بالنسبة إلي المبدأ هو شعور المشاهدين بواقعية ما يحدث أمامهم، وأداء الممثل هو من أهم العناصر التي تساهم في تحقيق ذلك. لقد ساعدتني موهبة سناء بحاج وشكل سعيد ضريف في الوصول إلى المطلوب. سناء لديها إحساسٌ جميل وموهبةٌ كبيرة. كل ما يدور في ذهنها يظهر على ملامحها بشكل قوي، إلى درجة أن مشاهد عديدة من الفيلم كانت تتطلب مجهودًا من الممثلين أتقنتها سناء بسهولة، بالرغم من ارتدائها البرقع ولم يظهر من ملامحها سوى العينين، وكانت عيناها الأداة الوحيدة لديها كممثلة، وبالرغم من ذلك نجحت”.
ويذكر أنه “بالنسبة إلى سعيد ضريف كان يكفي أن يجلس أمام الكاميرا ويصمت ليكون مقنعًا. لذلك سعيد يمتلك مقوماتٍ ليكون ممثلًا كبيرًا. ملامحه وصوته يساعدان في ذلك كثيرًا. وساهمت إدارة الممثل على الحفاظ على المستوى المطلوب من التعبير لدى الممثلين حتى لا يبالغوا فيه. ويبقى رأي المشاهدين هو الأهم؛ إلى أي مدى أقنعهم الممثلون، وإلى أي حد تمكنت كمخرج ومدير للممثلين من تأطيرهم حتى لا يخرجوا عن النمط العام”.
ويتحدث المخرج المغربي عن الموسيقى التصويرية فيقول “الموسيقى عنصر مهم وأساسي في عملية صناعة الفيلم عمومًا، ولكن في بعض الأحيان يكون صوت المطر موسيقى في الفيلم، أو صوت الرياح، والضجيج يمكن أن يكون موسيقى تصويرية في بعض الأحيان. والصمت يؤدي نفس الوظيفة في مواقف معينة”.
إذا كان المزاج الذي تخلقه الصورة لا يتماشى مع النسق العام للفيلم، فسيُخرج المشاهد من أجواء القصة ويشتت تركيزه
ويوضح “اخترت في فيلم ‘ميثاق’ الصمت والهدوء ليساعدا المشاهدين في الشعور بالضجيج المزعج والصخب الذي يملأ أذهان الشخصيات، إلا في مشهد واحد كان فيه عسو يرى كابوسًا في منامه. كان عرسًا أمازيغيًا، استعنا فيه بـ’أحيدوس أيت سغروشن’ كموسيقى تصويرية، عبارة عن إيقاع وغناء فقط، وغياب كل الآلات الموسيقية. فأضافت لمسة فريدة إلى الفيلم، وأعدنا إيقاعات ‘أحيدوس’ في جينيريك الفيلم”.
ويتابع “أحداث الفيلم دارت في 24 ساعة، من صلاة العشاء إلى أذان صلاة المغرب في اليوم التالي. يشعرنا هذا بأننا رافقنا الشخصيات الرئيسية في كل تفاصيل يومها، وهذا جعل التركيبة الزمنية للفيلم متماسكة وموفقة في الغرض”.
وتتجلى نقاط القوة في فيلم “ميثاق” في سلاسة السرد، وفي كيفية جذب المشاهدين حتى اللحظة الأخيرة في الفيلم. الحبكة متماسكة ومنسجمة، وفي حالة إزالة أي مشهد من الفيلم، سيفقد الفيلم الكثير من قوته. الصورة والصوت كانا دائما في خدمة الشخصيات للتعبير عن دواخلها.
ويستدرك حنين “أرغب في ذكر نقطة مهمة، للوهلة الأولى عندما يعلم أي شخص مهتم بالفيلم أن القصة تتعلق برجل يرغب في تزويج زوجته مرة أخرى ليقوم بعد ذلك بزواجها من جديد، قد يعتقد أن هذه الفكرة مستهلكة. في فيلم ‘ميثاق’، هذه هي نقطة القوة، لأن التحدي هو أن تنجح في صنع فيلم برؤية فريدة عبر استخدام قصة مألوفة. فصناعة الفيلم هي وجهة نظر، ولو أُعطيت نفس القصة لألف مخرج، ستكون النتائج مختلفة تمامًا، ولكل منهم بصمته الخاصة”.
ويشاركنا المخرج الحسين حنين تجربته الجديدة في فيلمه الأحدث، والذي يُعتبر تجربة جديدة. إنه فيلم تجريبي يشمل نوعًا من المجازفة، والقصة بسيطة أيضًا. تدور حول فتاة شابة على أعتاب اتخاذ قرار مصيري، حيث يجب عليها الاختيار بين مواصلة دراستها وإجراء عملية إجهاض للجنين الذي في بطنها أو الاحتفاظ به والتخلي عن دراستها. وقد تم اختيار الفيلم ضمن القائمة النهائية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية، الذي يُعد واحدًا من أهم مهرجانات السينما في العالم والذي ألغيت دورته جراء الحرب على غزة. وكان من المقرر أن يتم الكشف عن الفيلم لأول مرة في هذا المهرجان، وبعد ذلك يتم عرضه في العديد من المهرجانات الأخرى.