"مونسيرا" مسرحية تفضح وحشية الغزاة الغربيين

لا تخفى العنصرية في النظرة الغربية إلى بقية الشعوب، ترسيخا لنظرية تفوّق الرجل الأبيض المغلوطة، والتي خلّفت مآسي كثيرة ظهرت إثر حملات الغزو التي قادتها دول غربية لشعوب أخرى، وهو ما يحاول تعريته الكثير من الكتاب والمبدعين الغربيين أنفسهم، من بينهم الفرنسي إيمانويل روبليس.
هناك أعمال أدبية كثيرة تكشف الوجه الأسود أو القاتم على أقل تقدير للحضارة الغربية في تعاملها مع الآخر، وتبرز مدى الهوة الشاسعة بين الادعاء والممارسة، من بين هذه الأعمال مسرحية “مونسيرا” للكاتب والشاعر الفرنسي، الإسباني الأصل، والجزائري المولد إيمانويل روبليس، المولود بوهران سنة 1914 والمتوفى بفرنسا عام 2008.
يقدم إيمانويل روبليس في مسرحيته المشار إليها حجم الوحشية والتنكيل الذي مارسه الغزاة “الكونتيستادور” في حق السكان الأصليين لأميركا الجنوبية. فالقس في المسرحية يبرر سفك دماء الأبرياء مستخدما نصوصا إنجيلية، فيدعو الممثل المسكين أن يقبل على مصرعه هادئا مطمئنا، فيجيبه الممثل “ولكنني بريء”، فيرد عليه القس “ومن هو البريء؟”.
العنصرية الغربية

إيمانويل روبليس ينقد الوجه المظلم للحضارة الغربية
إن أشد أنواع الإرهاب فتكا هو الإرهاب الديني قبل العرقي، وإن كان الإرهاب العرقي أيضا لا يقل عن الأول هوسا وجنونا. يورد الأديب الجزائري الرائع محمد ديب في روايته الباهرة “الحريق” تعبيرا مقززا ينطق به أحد المعمرين الفرنسيين محذرا ابنه الصغير “نم وإلا أحضرت لك العربي”.إن القس لا يهتز له طرف إذا ما قتل الملايين من غير المسيحيين، يقول “ليس بوسعي أن أكن أي شفقة لهذه الكائنات، التي تصر على إقامة أصنامها وعبادتها في الخفاء، هؤلاء المتعصبين الذين يرفضون الاعتراف صراحة بعظمة الله و مجده”، وما أجمل رد مونسيرا على جملة القس الحمقاء هذه “أما أنا فلا أدري إن كان الله غيورا، غيرة عباده عليه بهذه الصورة الفظة”.
لقد وقفت على تسجيل للبابا شنودة من سلسلة تسجيلات، أحسب أن اسمها إن لم تخني الذاكرة “سنوات مع أسئلة الناس”، يرد فيه على سؤال أحدهم عن تفسير “من لطمك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر” بقوله “إن هذا يخص المسيحيين فيما بينهم فقط”. إن هذه الإجابة القروسطية لا يضاهيها في همجيتها سوى منهج الدواعش في فهمهم للنصوص وتعاملهم مع المختلف.
إن خطر جملة شنودة العنصرية ومنهج المجانين الخطرين من الدواعش يتمثل في ما يتفصد عن مثل طريقة التفكير هذه من دمار. وبعد كل هذا العته الذي لا يصدر إلا عن نفسية إقصائية واستئصالية هستيرية، يقول القس في المسرحية “كان المسيح حبا كله”. ألم يكن الأجدى بالقس أن يعظ نفسه قبل الآخرين، ولكن أنى له أن يفعل ذلك، فما هو و”إسكياردو” الضابط السفاح إلا كما قال شوقي “ولكن كلنا في الهم شرق”.
إذن إسكياردو والقس وجهان لمجموعة بشرية عنصرية واحدة. يصيح إسكياردو معترضا “ماذا كنت تقول يا موراليس؟ أنا أصفح! أتبدو علي بلاهة رجل يمكن أن يتعطف ويصفح؟ أبدا”.
إسكياردو تجسيد مثالي لعجرفة وحقد نوع من الغربيين الأشرار، الذين تسكن أجسادهم أرواح سوداء يملؤها الحقد والغضب. يصرح مونسيرا في المسرحية “لا أظن إسكياردو بالرجل الذي ينسى إخفاقا ما ولو بعد عشرين سنة”.
هذا يعيد إلى أذهاننا صورة الكابتن آخاب في رواية “موبيديك” التي تتكلم عن روح الثأر المخيفة التي يعاني منها الرجل الأميركي الأبيض “لا تدعني آخاب، ولكن ادعني المنتقم”.
في مكالمة هاتفية جرت بين جورج بوش الابن وجاك شيراك تمت قرصنتها، وعرضتها قناة الجزيرة إن لم تخني الذاكرة، يقول بوش لشيراك “تعال وانضم إلى جيش الصليب المقدس، إن صدام حسين هذا، حفيد نبوخذ نصر”.
إسكياردو أخفق في الحب، فقد رُفض من قبل كونتيسة شابة في إسبانيا قبل أن يأتي إلى فنزويلا. من هنا يمكنني القول: إن الفشل في الحب يولد حدة وشراسة في الطباع.
أصوات غير مسموعة
إسكياردو والقس في المسرحية وجهان لمجموعة بشرية عنصرية واحدة تكشف عن نفسية إقصائية واستئصالية
ليس إيمانويل روبليس بدعا من الأدباء الذين أشاروا إلى وحشية الرجل الأبيض، كما ذكرت في طرة مقالي هذا، هناك أيضا جون شتاينبك في روايته “اللؤلؤة” وكيف طارد الرجال البيض ذلك الهندي الأحمر بغرض سلبه لؤلؤته الثمينة، فكانوا سببا في موت ابنه الرضيع، إلى أن يلقي الهندي في ساعة يأس وقنوط باللؤلؤة في النهر.
كما تحيلنا إلى روايتي “رحلة إلى الهند” لفوستر و”مشهد من الجسر” لآرثر ميللر التي تتكلم عن العداء المستشري بين شريحة مهمة وقطاع واسع من الأميركان للأمم الأقل تحضرا “إننا كلنا بشر، فلماذا يتكبر بعضنا على بعض؟” وتكشف زيف الشعارات التي يرددها الأميركان، ويزعمون أنهم يدافعون عنها، فها هو إيدي كاربون يقول لكاثرين “إن لك جمال العذراء وطهرها يا كيتي، لهذا يجب عليك أن لا تتبهرجي، هذا لا يليق بك، أنت أقرب ما تكونين إلى العذراء”، في حين أنه كان يريدها لنفسه، بل وصل به الأمر إلى محاولة اغتصابها لولا تدخل رودولفو.
قصارى القول إن مونسيرا بطل روبليس هو صوت من أصوات غربية مؤمنة بالإنسان، لا تملك أي تأثير في صناعة القرار الغربي تجاه الدول المتخلفة والضعيفة، إنها أصوات باهتة خارج السرب، لا تستمع إليها الشعوب الغربية المجهلة، التي أطلق عليها عراب الصحافة الأميركية لقب “القطيع التائه”.
إن صرخات الحقيقة التي يرسلها رجال عظماء أمثال تشومسكي وخوسيه ساراماغو وتزيفيتان تودوروف الفيلسوف والنحوي البلغاري الحاصل على الجنسية الفرنسية، الذي لقبه بونيفاس بالمفكر الأكثر احتراما، تودوروف الذي يتكلم عن نهاية الديمقراطية الغربية، إن هذه الأصوات تشبه كلام والدة الحداد في مسرحية “زواج الحداد” للأديب الإيرلندي جون سينج “ما جدوى الحكايات الرائعة التي أعرفها إذا لم أجد أحدا ينصت إلى عجوز مثلي، اللهم إلا فتاة خائفة من دنو أجلها، أو طفل صغير لا يواتيه النوم، لأنه جائع في ليلة باردة”.