"مونتوك" رواية تجريبية تستخدم أسلوب اليوميات

علاقة حب مؤقتة تقود الكاتب ماكس فريش إلى تأمل سيرته.
الاثنين 2024/06/10
كاتب يجرب القصص كالملابس

رغم الخيال الذي يميز الكتابة الروائية فإن الصدق هو ما يبحث عنه قراؤها، في حبك الكاتب لعوالم تثيرهم وتشدهم وتدفعهم إلى تصديقها، ومن الكتاب من وقف في منطقة صعبة للغاية بين السيرة الذاتية والرواية، مازجا حقيقة حياته مع نسج الأحداث سرديا بأسلوب روائي، وهذا ما نقرؤه في رواية “مونتوك”.

يفتتح الكاتب المسرحي والروائي السويسري ماكس فريش روايته “مونتوك” بمقدمة مقتبسة من كتاب “مقالات” للكاتب والفيلسوف الفرنسي مونتني (1533 - 1592) يقول فيها “هذا كتاب صادق، أيها القارئ؛ كتاب يحذرك قبل أن تبدأه، إذ إنني لم أخطط له سوى نهاية منزلية، حميمة. هذا الكتاب أهديه إلى أصدقائي وأقاربي، لاستخدامهم الشخصي، حتى يجدوا فيه ـ عندما يفقدونني - بعضا من ملامح حالتي النفسية وطريقتي في الحياة.. فأنا الكاتب والمكتوب. أخطائي سوف تقرؤها هنا كما هي، كما ستجدني على سجيتي  على قدر ما يسمح به الذوق العام. أنا إذن بشخصي، أيها القارئ، هو المضمون الأوحد للكتاب؛ ليس ابتذالا لوقت فراغك أن تقضيه مع شيء مختال وتافه كهذا”.

لا بد أن تستفز هذه المقدمة أي قارئ كونها تطرح عليه تساؤلات كثيرة بما يمكن أن تحمله أحداث الرواية، حيث يكاشف فيها فريش نفسه منطلقا من علاقة الحب المؤقتة بينه وبين لين موظفة النشر التي تبلغ نصف عمره والتي التقى بها خلال مقابلة في نيويورك، يقضيان معا عطلة نهاية الأسبوع في مونتوك، وهي بلدة صغيرة في لونغ آيلاند، وتعد منتجعا صيفيا خارج المدينة مباشرة.

سيرة ورواية

بوكس

يقول فريش في “مونتوك”، “أرغب لو استطعت وصف نهاية الأسبوع هذه، من دون أن أخترع شيئا، هذا الحاضر الهش ـ ولكن الفكرة نفسها خطرت على باله بالأمس في البوتيك؛ نسي اسم المكان. ثم، مرة أخرى، لا يفكر في أي شيء.. ثم الفكرة ذاتها: أرغب في ألا أخترع شيئا، أرغب في معرفة ما أعيه وما أفكر فيه عندما لا أفكر في القراء المحتملين”.

ويضيف “هل أكتب لإرضاء القراء، لتزويد النقاد بأدب؟ السؤال حول ما إذا كان الكاتب يضع القارئ نصب عينيه أثناء الكتابة من الأسئلة التي تُطرح في كل جامعة. يفكر، على سبيل المثال، في أنه لم يقدم نفسه لقرائه حافيا أبدا.. هناك، حيث يكون الرمل رطبا، وبالتالي أصلب، عند التقاء الموج بالشاطئ، يصبح السير أهون وتبرد القدمان. البحر في مد، الشاطئ أضيق من الأمس. بعيدا عن الأمواج، حيث الرمال جافة، فإن غرز القدمين في الرمال أمر منهك. يشعر بالاحتراق في بشرة الكعب. رمل خشن. ذات مرة، ينبغي على المرء أن يسير طويلا حتى تبلى بشرة الكعبين، ويتحدث إلى نفسه حقا”.

الشكوى من الشيخوخة تشغل مساحة كبيرة في النص، حيث يتم وصف التغيرات الجسدية ومواجهة الموت وموت الفرد بموضوعية، وفي بعض الأحيان بشكل مقتضب تقريبا. ولا يتحول رثاء الشيخوخة هنا إلى مديح للشيخوخة، ولكن الشيخوخة مفهومة ومقبولة على أنها فترة نهاية الحياة.

علاقة الحب المؤقتة بين فريش ولين تشكل محاولة لتجربة السعادة، سعادة الحب الأخير المسكر، وفرصة لإلقاء فريش نظرة على سيرته الذاتية. يتحدث عن النساء اللواتي ارتبط بهن وعلاقاته الفاشلة. يواجه عمره وحالة القرب من الموت والتأثير المتبادل بين الحياة والعمل. وصف فريش نفسه “مونتوك” بأنها قصة في العنوان الفرعي. وبذلك، أكد على الشكل الأدبي للنص، الذي، على الرغم من محتواه السيرة الذاتية، ليس سيرة ذاتية، ولا تقريرا، ولا مذكرات.

لين “الشابة الغريبة”، كما أشار إليها ذات مرة، لم يتم وصفها إلا بضمير الغائب. إنها الحاضر المتجسد الذي لن يكون هناك “تاريخ” معه “هو”، في القصة، هو الرجل الذي يريد قضاء هذه الأيام القليلة معها، ويشعر بأنه كبير في السن وغير مثير للاهتمام وممل، لكنه أيضا يوضح مرارا وتكرارا بين السطور أنه أحد المشاهير الأدبيين الناجحين.

يمكن قراءة الرواية بثلاث طرق مختلفة. أولا، كقصة جذابة ومثيرة للاهتمام، دون الأخذ في الاعتبار أنها سيرة ذاتية. ويمكن قراءتها كنص سيرة ذاتية، وستخبرك كثيرا عن الأديب ماكس فريش. يبدو أن لديه وجهة نظر واقعية للغاية عن نفسه ككاتب. حتى إنه يقول إنه ليس لديه خيال. الكتابة هي حرفة يجيدها وقد جلبت له الشهرة والثروة. لا أكثر ولا أقل. وفي الوقت نفسه، وبما أن هذه الرواية أيضا رواية ما وراء القص، فيمكن أن نجد وجهات نظر ضمنية حول إنتاج فريش الأدبي. وهذا يقود إلى الطريقة الثالثة وهو ما وراء القص.

تقول “مونتوك” الكثير عن إنتاج الرواية الذاتية أو الاختيارات التي يمتلكها المؤلف عند الكتابة عن حياته. كان بإمكانه أن يروي قصة حياته بتسلسل زمني، أو مثل آني إرنو، ينتقى اللحظات، ويقربها، ويضخمها. وفي كثير من النواحي، فهو يفعل العكس. نعم، هناك قصة عطلة نهاية الأسبوع في “مونتوك”، والتي تشغل مساحة أكبر، لكن بقية حياته مكثفة.

عمل تجريبي

بوكس

“مونتوك” التي ترجمها سمير جريس وصدرت عام 2001 عن دار الجمل، صدرت طبعتها الثانية أخيرا عن مؤسسة هنداوي، وقد أوضح جريس أن هذه الطبعة تلافت أخطاء الطبعة الأولى وقال “الطبعة الأولى شابتها للأسف الشديد أخطاء عديدة، إذ كانت أول ترجمة طويلة أنجزها. ومما زاد الطين بلة أن دار النشر لم تراجع الترجمة بأي شكل من الأشكال، فطُبعت بكل الأخطاء التي وردت فيها. ولذلك يسرني أن أقدم هنا نسخة منقحة ومُراجعة من الترجمة، لاسيما وأن ‘مونتوك’ من أكثر الأعمال التي ترجمتها قربا إلى قلبي. ومما أسعدني أن تصلني عقب صدور ‘مونتوك’ في طبعتها الأولى رسالة إلكترونية من الروائي الكبير صنع الله إبراهيم بتاريخ 15 أغسطس 2002، قال فيها ‘الكتاب مفاجأة لي، إذ لم أكن أعرف بوجوده، واستمتعت به لأنه مكتوب بفنية عالية، وحقق فيه فريش إيقاعا شعريا وموسيقيا جميلا. الأهم أن الترجمة لم تخذل النص، بل خدمته بشكل ممتاز. لم أشعر بأي اهتزاز أو غموض لأنك استوعبت النص جيدا وأحببته'”.

وأكد جريس أنه يمكن اعتبار “مونتوك” ذروة أعمال فريش الذاتية ودرة أعماله في رأي غالبية النقاد. في “مونتوك” يزيل فريش الحدود الفاصلة بين الشعر والحقيقة، بين الواقع والخيال، وبين سيرته الذاتية وسيرة الآخرين. ومونتوك هو اسم المكان الصغير الذي قضى فيه القاص/ الكاتب نهاية أسبوع مع أميركية شابة، وهناك قرر أن يقص ما عاشه: “كسيرة ذاتية، نعم كسيرة ذاتية. من دون أن يخترع أشخاصا؛ من دون أن يخترع أحداثا تكون أكثر دلالة على واقعه الشخصي؛ من دون الهروب إلى الخيال. من دون أن يبرر كتابته بالمسؤولية تجاه المجتمع؛ بلا رسالة. ليست لديه رسالة، ويحيا رغم ذلك. إنه يرغب في أن يقص فحسب (من دون أن يراعي مشاعر كل هؤلاء الذين يذكرهم بأسمائهم): حياته”.

وأضاف “عبر العَلاقة الغرامية التي نشأت بين فريش ولين الشابة التي وظفتها دار النشر الأميركية لمرافقة الكاتب المسن خلال رحلته الأميركية، يسترجع فريش علاقاته الغرامية والزوجية طوال حياته، مقدما سيرة ذاتية مفرطة في صراحتها وقسوتها، وخصوصا في المقاطع التي يتحدث فيها عن حبه للفتاة اليهودية في الحقبة النازية، أو تلك التي يستعرض فيها مشاكله الزوجية مع زوجته الأولى ثم الثانية، وأخيرا عَلاقته بالشاعرة النمساوية إنجبورج باخمان التي انتحرت محترقة في شقتها في روما”.

يتحدث فريش عن “هذا الهوس” الذي أصابه، أي “كتابة جمل على الآلة الكاتبة”، وهو الهوس الذي يدفعه إلى استخدام حياته وحياة الآخرين كموضوع لأعماله، إلى أن تصرخ فيه زوجته الثانية “لم أعش معك كمادة لأدبك!”، وتطلب الطلاق منه.

“أجرب القصص كالملابس” يقول فريش في “مونتوك” أيضا، ثم يضيف “كثيرا ما يفزعني تذكر شيء ما، غالبا ذكريات غير مرعبة في الأساس؛ توافه لا تستحق حتى أن أحكيها في المطبخ، أو وأنا جالس بجانب سائق سيارة. ما يفزعني هو هذا الاكتشاف: لقد تسترت على حياتي. زودت رأيا عاما ما بقصص.

تعريت في تلك القصص، أعرف، تعريت إلى درجة يستحيل معها التعرف علي. لا أعيش قصتي أنا، بل تلك الأجزاء التي استطعت أن أصنع منها أدبا. مناطق بأكملها ظلت غائبة: الأب، الأخ، الأخت. العام الماضي توفيت أختي. تأثرت لكثرة ما أعرفه عنها. لم أكتب أبدا شيئا من قصتها. لم أصف نفسي قط. لقد خنت نفسي فحسب”.

من الواضح أن فريش لم يخدم أبدا فضول القارئ للتجسس على السيرة الذاتية لشخص آخر دون تحفظ. وقد بين جريس أنه “في الحقيقة، لم يخن فريش نفسه، بل قدم أدبا ذاتيا صادقا قادرا على مخاطبة الإنسان المعاصر في كل مكان، وذلك في وقت كان الأدب الألماني يبحث فيه عن دور اجتماعي وسياسي ويبتعد عن كل ما هو ذاتي. آنذاك كان النقاد يحتفون برواية ‘طبل الصفيح’ لجونتر جراس و’حصة اللغة الألمانية’ لزيجفريد لنتس و’آراء مهرج’ لهاينريش بول، وهي كلها أعمال تتمحور حول الماضي النازي ومسؤولية الألمان في الحرب وتدمير العالم وملاحقة اليهود. في تلك الفترة تخصص ماكس فريش، مثلما يقول الناقد فولكر فايدرمان، في الكلام عن الهوية والذات، وحققت أعماله نجاحا كبيرا لأنه أصاب عصب الوقت، ومنح ملايين الألمان الأمل في أن يبدؤوا حياة جديدة ويكتسبوا هوية جديدة؛ وهو أمل سيظل ربما يراود ملايين البشر، في كل عصر، وفي كل مكان”.

ورأى “مونتوك” ليست رواية سيرة خالصة، القصة تحمل بالطبع سمات كثيرة من السيرة الذاتية، لكنها ليست سيرة بالمعنى المتعارف عليه. هي رواية تجريبية تستخدم أسلوب اليوميات الذي اشتهر به فريش إلى جانب أساليب أخرى، ليقدم تأملاته حول الفن والكتابة والحياة، حياته وحياة المقربين منه.

◄ فريش يسترجع علاقاته الغرامية والزوجية طوال حياته، مقدما سيرة ذاتية مفرطة في صراحتها وقسوتها
فريش يسترجع علاقاته الغرامية والزوجية طوال حياته، مقدما سيرة ذاتية مفرطة في صراحتها وقسوتها

 

12