موسيقى التانغو الأرجنتينية توحد الشعوب والأذواق في دمشق

فرقة أرمنية تقدم موسيقى الأرجنتيني آستور بياتزولا.
الاثنين 2022/06/13
الشعوب تتلاقى في الموسيقى

كثيرا ما يكتب أن الموسيقى لغة العالم، وأنها فن يتجاوز الحدود و الموانع، ويجعل من الإبداع الإنساني جسر التواصل بينها. فموسيقى الغرب تسمع في الشرق، وموسيقى الشرق تؤثر في الغرب. وجمهور الموسيقى في كل العالم اليوم يثبت أن لها قدرة هائلة على تحقيق تفاعل إنساني بعيدا عن أي شرطية أخرى. وهذا ما كان في حفل موسيقي قدم حديثا في أوبرا دمشق، حيث التقت فيه موسيقى الأرجنتين بعزف أرمينيا وسوريا في دمشق.

جمعت موسيقى التانغو وآلة الباندونيون الشعبية الأرجنتينية، الإبداع الموسيقي بين التأليف والعزف والغناء ما بين أميركا اللاتينية وأرمينيا وسوريا.

ففي مطلع الشهر الجاري نظمت دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) وبالتعاون مع سفارة الأرجنتين بدمشق حفلا موسيقيا كبيرا، قدمت فيه معزوفات الموسيقار الأرجنتيني الشهير آستور بياتزولا وهو من أهم موسيقي العالم الذي اختص بتقديم تآليف موسيقية في التانغو، كما كان عازفا بارعا على آلة الباندونيون.

الباندونين في دمشق

الجمهور السوري لا يعرف آلة الباندونيون الشعبية اللاتينية وإن كان يعرف صوتها عبر العشرات من معزوفات التانغو

تشكلت في الحفل مجموعة من العازفين الموسيقيين الخاصة به، حيث أدت العزف الأساسي الفرقة الأرمنية “كادانس”، وبمشاركة عازفين من الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، وغنت في الحفل الأرجنتينية مارييل دوبوتيت، وقاد التشكيل الموسيقي المايسترو ميساك باغبودريان قائد الفرقة السورية السيمفونية.

 قدمت في الحفل مجموعة من المؤلفات الموسيقية الشهيرة، فكانت البداية مع مؤلف طويل حمل اسم “الفصول الأربعة” لمدينة بيونس آيرس للمؤلف بياتزولا من إعداد الموسيقي كارين أنانيان، كما قدمت له مؤلفات وداعا جدي وليبرتانغو ورقصة لاكو مبارسيتا وغنت له مارييل دوبوتيت مقدمة عام 3001 والعودة إلى الجنوب واسمي ماريا، كما قدمت مقطوعة للمؤلف أنيبال ترويلو باسم تشي باندونين. وقدم العازف والمؤلف ولتر ريوس من مؤلفاته مقطوعتي اليوم التالي وأمسية في تموز، وأخيرا قدمت أغنية عشق أرمنية للمؤلف الأرمني السوري سايات نوفا.

كان غريبا على الجمهور السوري شكل الفرقة المؤدية والموسيقى التي قدمتها وآلة الباندونيون، لكن كل ذلك لم يقف حائلا دون توجهه لمتابعة الحفل والتفاعل معه، وهذا ما تحقق كما تشير إليه آراء الحاضرين.

لا يعرف الجمهور السوري آلة الباندونيون الشعبية اللاتينية. وإن كان يعرف صوتها عبر العشرات من معزوفات التانغو التي يرقص عليها الكثير من محبي موسيقى ورقص أميريكا اللاتينية، وكان الحفل فرصة نادرة كي يتعرف هذا الجمهور على هذه الآلة التي تشبه إلى حد بعيد آلة الأكورديون، وقام بالعزف عليها أمهر عازفي المنطقة ولتر ريوس، على الآلة ذاتها التي تركها له الموسيقار المؤلف  آستور بياتزولا.

 والباندونيون آلة موسيقية وجدت في القرن التاسع عشر، وكانت تستخدم في الكنائس مرافقة للعزف الديني، ويعزف عليها وهي توضع على أحد الساقين، وصلت إلى الأرجنتين في أوائل القرن العشرين، وراجت بشكل كبير وصارت حاضرة في الموسيقى الشعبية، وجاء بياتزولا ليكرس مكانتها.

وللآلة أكثر من شكل وأسلوب تصنيع ، منها ما يناسب المبتدئين في العزف ومنها الأغنى موسيقيا، فهنالك آلات منها تعدّ 110 زرا موسيقيا وشكل آخر 140. ودخلت الآلة الأوركسترا وألفت لها مقطوعات خاصة، وتقام لها الكثير من الفعاليات والمهرجانات والمسابقات. وصارت الآلة من خلال موسيقى التانغو رمزا للشكل الموسيقي المميز لدول أميركا اللاتينية.

كان تأثير بياتزولا كبيرا في عالم التانغو فهو لم يحصر نفسه في أميركا اللاتينية بل بلغ كل أنحاء العالم

موسيقى بياتزولا

لم يكن الموسيقار آستور بياتزولا ( 1921 – 1992 ) مؤلفا موسيقيا عاديا فهو لم يقنع بأن يكون مؤلفا موسيقيا تقليديا في بيئته الجنوب أميركية. ورفض أن يبقى ضمن إطار الشكل التقليدي لموسيقى التانغو التي كانت سائدة في بواكير القرن العشرين في المنطقة. وبحكم اطلاعه على الموسيقى في أوروبا وكذلك في الولايات المتحدة كونه عاش فيهما وتعرف إلى الموسيقى الشعبية، أوجد مشروعه الذي كرس له حياته الفنية وهو تطوير الموسيقى اللاتينية وخاصة التانغو، وصنع موسيقى جديدة غير معروفة في أميركا الجنوبية.

 لم يتقبل الجمهور بداية موسيقى بياتزولا بهدوء، بل رفض جمهور عريض المزاج الموسيقي الذي قدمه، فذهب به إلى أوروبا والولايات المتحدة، وكان مصرا على العمل عليه، وعلى امتداد سنوات وبعد أن رسخ التجربة وتعرف الناس عليها بشكل بطيء وتدريجي، تحمس الجمهور لما قدمه ونهلوا منه وصار بياتزولا أهم مؤلف موسيقي في العالم في التانغو، وكذلك العزف على آلة الباندونيون التي صارت جزءا دائما في موسيقى التانغو الأرجنتينية.

وشاع نمط موسيقاه في بلده ثم في دول أميركا اللاتينية ومنها إلى العالم. قدم في مسيرته المهنية آلاف المقطوعات الموسيقية في السينما والمسرح والموسيقى الكلاسيكية، والأهم في التانغو التي مزجها بالجاز والبلوز، ترك الأرجنتين  مرارا وعاد بعدها عام 1985  وهو في قمة مجده الموسيقي العالمي ورحل بعد سبع سنوات ليترك أثرا موسيقيا خالدا ما زال يعزف في كل أصقاع العالم.

كان تأثير الموسيقي الأرجنتيني كبيرا في عالم التانغو، فهو لم يحصر في أميركا اللاتينية بل وصل إلى الشطر الآخر من العالم، فتأسست في أرمينيا عام 2004 فرقة موسيقية “كادانس” من خمسة عازفين. فارزدات خاشوميان على الكمان وهاكوب جاغات سبانيان على الغيتار وميروزهان ياكانيان على الأكورديون وصوفي ميكاليان على البيانو وجوجن أميريان على الكونتر باص.

وكان هدف هذه الفرقة الترويج لموسيقى بياتزولا، وتقديمها بروحها الأرجنتينية أو المطعمة بموسيقى أرمينية أو العالم، قدمت الفرقة أولى حفلاتها عام 2005 وحققت شهرة كبيرة في أرمينيا ثم في أوروبا والعالم، وصارت إحدى الفرق العالمية الشهيرة التي تقدم الموسيقى الكلاسيكية من أرمينيا والعالم، وهي تخصص معظم برامجها لموسيقى التانغو التي وضعها بياتزولا.

تجربة الفرقة الأرمينية وهي التي تنتمي جغرافيا وبيئيا إلى منطقة وسط آسيا في القفقاس الجنوبي، المختلفة عن بيئة المؤلف المنتمية إلى أميركا اللاتينية، تثبت أن الموسيقى يمكنها أن توحد إبداعات الشعوب والأمم، إذ يمكن تقديم التانغو اللاتينيي في وسط آسيا ويمكن أن يكون هذا الحدث موجودا في غرب آسيا (دمشق) ويتفاعل الناس معه بحب وتشوق. كان واضحا أن المساحة المشتركة التي وجد فيها الجميع حققت أعلى درجات التجاوب مع الجمهور الذي خرج من الحفل منتشيا بجمال ما قدم.

حارس التراث

Thumbnail

عزف في الحفل الموسيقي الأرجنتيني والتر ريوس على آلة الباندونيون القديمة التي تركها له الموسيقار والعازف آستور بياتزولا نفسه، ويعتبر ريوس وريث العزف على هذه الآلة في عصرنا، حيث تعاني من التراجع في الاهتمام بها لمصلحة آلة الأكورديون التي تحمل وسائل تقنية أكثر غنى.

قدم ريوس في مسيرته الفنية الطويلة موسيقى في الكثير من الأعمال الفنية ورافق فرقا موسيقية عريقة في كل العالم. عنه كتب أحد الشعراء الأرجنتينيين “باندونيون، أداة القرن، في يد والتر ريوس، الشخصية التي لا جدال فيها لأجمل الألحان في كل العصور”.

وحول رأيه بشأن وجود آلة الباندونيون لأول مرة في دمشق والعزف عليها قال ريوس: “كنت أطمح دائما إلى تقديم هذه الآلة في كل العالم، وجاءت الفرصة كي أقدمها في دمشق، سررت بكم التشوق الذي قابل به الجمهور هذه الآلة التي يعرفها من خلال فن الرقص وموسيقاه في التانغو، ما قدمه المؤلف بياتزولا مازال نابضا بالحياة، ويمكن أن يعزف في أي مكان وزمان وها نحن نقدمه في سوريا وبمشاركة فرقة أرمنية”.

وقدمت في الحفل مجموعة من الأغنيات التي أدتها مارييل دوبوتيت. وكان لحضور المغنية التي تمتلك صوتا قويا صدى طيبا لدى الجمهور الذي صفق طويلا لها. ظهرت مارييل على المنصة بثقة كبيرة تنم عن مدى الخبرة التي تمتلكها، الأمر الذي تجلّى بوضوح عندما تسبب خلل تقني في الميكروفون بإخفاء صوتها على الجمهور لزمن قليل، لكن خبرتها والفرقة الموسيقية عالجت الموقف ببساطة، إذ استمرت في الغناء بصوتها البشري دون تكبير صوتي واستمر العازفون بالعزف، حتى أنقذ الموقف بلطافة المايسترو باغبودريان وتجاوز الخلل التقني وعادت الأمور إلى طبيعتها وسط تصفيق حاد من الجمهور.

Thumbnail
13