موسم هجرة الروبوتات إلى الفضاء

مع تطور الذكاء الاصطناعي يمكن أن تصبح الروبوتات مشارِكة في مغامرة الإنسان لاستكشاف عوالم جديدة وإقامة مستعمرات روبوتية خارج نطاق السيطرة البشرية. سيناريو، رغم كونه مثيرًا، ما زال أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. لكن ربما العلم يحمل مفاجآت لا نعرفها بعد!
لندن - عصر الاستكشاف، الذي امتد من القرن الخامس عشر إلى السابع عشر، وقفت وراءه دوافع متداخلة. في طليعتها عوامل اقتصادية وتجارية، مع سيطرة الدولة العثمانية على الطرق التجارية البرية بين أوروبا وآسيا، ما دفع الأوروبيين إلى البحث عن مسارات بحرية بديلة للوصول إلى موارد الشرق من توابل، وحرير، ومعادن ثمينة.
إلى جانب دوافع دينية، وسعي الأوروبيين إلى نشر المسيحية بين الشعوب التي كانوا يكتشفونها. وكانت هناك طموحات سياسية وجغرافية لدول أوروبية كبرى، مثل البرتغال وإسبانيا، لتوسيع نفوذها والسيطرة على أراضٍ جديدة.
كل هذا لم يكن ليحدث لولا اختراع البوصلة وتحسين تصميم السفن وتطور الخرائط، وهو ما جعل الرحلات الاستكشافية أكثر أمانًا وفعالية.
لم يكن عصر الاستكشاف مجرد فترة لتوسيع التجارة والجغرافيا، بل كان له أثر عميق في تشكيل العالم الحديث من النواحي الثقافية، السياسية، والاقتصادية.
بعد مرور 300 عام على عصر الاستكشاف، يواجه العالم تحديات كبيرة بسبب الزيادة السكانية والتغير المناخي. الأمر الذي دفع البشرية للعودة إلى البحث خارج الحدود الجغرافية المعروفة، بالاستعانة هذه المرة ليس بالبوصلة والخرائط الجغرافية، بل بالتطور الحاصل في التكنولوجيا الرقمية، الأتمتة، والذكاء الاصطناعي.
بدأت محاولات الإنسان لاكتشاف الفضاء والوصول إلى كواكب أخرى بشكل جدي في منتصف القرن العشرين، خلال “سباق الفضاء” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
أولى الرحلات الفضائية كانت عام 1957، عندما أطلق الاتحاد السوفييتي أول قمر صناعي في التاريخ، سبوتنيك 1، الذي يُعتبر بداية عصر استكشاف الفضاء. وفي عام 1961، أصبح السوفييتي يوري غاغارين أول إنسان يسافر إلى الفضاء على متن مركبة “فوستوك 1.”
الروبوتات يمكنها العمل بشكل مستقل أو تحت إشراف العلماء ما يجعلها أدوات مرنة ومتعددة الاستخدامات
وبعد ثماني سنوات (1969)، حققت الولايات المتحدة إنجازًا تاريخيًا بهبوط أول إنسان على سطح القمر، حيث قاد نيل أرمسترونغ وباز ألدرين رحلة “أبولو 11”. تلا ذلك إطلاق الاتحاد السوفييتي مسبار مارس 3 في عام 1971، ليصبح أول مركبة تصل إلى سطح كوكب المريخ، على الرغم من أن الاتصال انقطع بعد دقائق.
في العقود التالية، أرسلت وكالات الفضاء مثل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية مسابير لاستكشاف كواكب أخرى، مثل المشتري وزحل، عبر برامج فوياجر وكاسيني.
اليوم، تتسابق الدول للوصول إلى الكواكب الأخرى واستكشاف إمكانية الحياة على المريخ، مع تطور برامج مثل برنامج أرتميس، الذي يهدف إلى العودة إلى القمر كمحطة انطلاق نحو المريخ. وما زالت الطموحات تتوسع لتشمل استعمار المريخ واستكشاف النظام الشمسي الأبعد.
في هذا السياق، باتت الروبوتات تلعب دورًا أساسيًا وحيويًا، وتقدم قدرات فريدة تعزز جهود البشر في مواجهة تحديات البيئة الفضائية القاسية.
الروبوتات مثل مسابير الفضاء (بيرسيفيرانس وروفرز ناسا) يمكنها الوصول إلى مناطق بعيدة على كواكب مثل المريخ والمشتري، وجود الإنسان فيها مستحيلًا أو خطيرًا.
ويمكن للروبوتات إجراء تحليلات للتربة والصخور، والتقاط صور مفصلة، وقياس مستويات الإشعاع أو درجات الحرارة، مما يوفر معلومات قيمة لدراسة الكواكب، فهي مصممة لتحمل الظروف الفضائية القاسية، بما في ذلك درجات حرارة متطرفة، وانعدام الجاذبية، والإشعاعات العالية، ما يجعلها مثالية للعمل في هذه البيئات.
وتتيح الروبوتات إجراء استكشافات تمهيدية وتقليل المخاطر على البشر من خلال فهم أفضل للبيئة المستهدفة. فهي قادرة على تحليل المياه أو المواد العضوية للبحث عن علامات الحياة في أماكن مثل الكوكب الأحمر أو أقمار كوكب المشتري.
إضافة إلى ذلك، يمكن الاستعانة بالروبوتات في بناء محطات فضائية أو قواعد على القمر أو المريخ، مما يمهد الطريق لاستيطان البشر في المستقبل.
ننسى أيضًا جانب الكفاءة الاقتصادية، حيث تُعتبر الروبوتات أقل تكلفة وأكثر كفاءة من إرسال بعثات مأهولة، مما يجعلها خيارًا مثاليًا لاستكشاف مساحات شاسعة في النظام الشمسي.
بفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن للروبوتات العمل بشكل مستقل أو تحت إشراف العلماء من الأرض، مما يجعلها أدوات مرنة ومتعددة الاستخدامات.
وضمن هذا المسعى، أعلنت شركة “أندرويدنايا تيخنيكا” الروسية أنها بدأت العمل على مشروع “تيليدرويد” لصناعة روبوت لتنفيذ مهام في الفضاء المفتوح. وأشار المكتب الصحفي للشركة في بيان له إلى أن الأعمال انطلقت في 1 ديسمبر الماضي.
وأضافت الشركة أنها لم توقع عقدًا مع مؤسسة “روس كوسموس” الحكومية الروسية للفضاء بعد، لكنه في مرحلة متقدمة من الإعداد. وتخطط الشركة لبدء اختبارات الروبوت في النصف الثاني من العام الجاري.
وسبق لشركة “أندرويدنايا تيخنيكا” أن صنعت الروبوت “فيودور”، الذي تم إرساله إلى المحطة الفضائية الدولية.
وفي الصين، أعلن مهندسون من جامعة الصين للتعدين والتكنولوجيا عن تصميم روبوت لاستخراج المعادن من سطح الأجرام السماوية، وقدموا طلبًا للحصول على براءة اختراع.
ويشبه الروبوت المصمم حشرة ذات ست أرجل: ثلاث منها مزودة بعجلات، والثلاث الأخرى مخالب. وبمساعدة الخطافات الحادة، يمكنه تثبيت موضعه على السطح وإجراء عمليات الحفر.
وقد أجرى المصممون تجربة ناجحة لتحريك الروبوت على الأرض في ظروف الجاذبية الصغرى، كما على القمر. وسيتعين على الروبوت أيضًا إتقان مهارات الاستكشاف الجيولوجي.
ووفقًا للباحث لي روي لين، فإن الخطوة الأولى في استكشاف كوكب غريب هي استخراج الموارد. “لذلك، تولي الصين اهتمامًا خاصًا لاستخراج الخامات المعدنية في الفضاء.”
ومعلوم أن استكشاف وتطوير الموارد القمرية يجذب حاليًا الاهتمام من جانب العلماء والمستثمرين. كما يثير تعدين الكويكبات اهتمام الباحثين، لأن الأجرام السماوية تحتوي على احتياطيات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة.
بالطبع، الولايات المتحدة لا تقف بعيدًا عن هذه الجهود، التي بدأتها منذ عشر سنوات؛ ففي عام 2014، تم اختيار الروبوت “Robonaut 2”، وهو أول روبوت آلي شبيه بالبشر في الفضاء يعمل مع الرواد خلال عمليات السير في الفضاء المكشوف، ليحمل لقب اختراع العام لوكالة ناسا.
وقالت وكالة ناسا: “في حين أن الروبوت R2 يقيم على متن محطة الفضاء الدولية، فإن العديد من التكنولوجيات المتقدمة التي استخدمت في بنائه تم تجهيزها لتناسب أيضًا الاستخدام على الأرض، مما يعطي هذا الاختراع التميز الذي يستحقه.”
مثل الروبوت بداية مرحلة جديدة، اليد العليا فيها للروبوتات. وتضمن برنامج استخدامه إنجاز التجارب العلمية المعقدة ضمن حقل جاذبية ضعيف للغاية، بالإضافة إلى تجارب أخرى تتعلق بعلم المواد والتكنولوجيا البيولوجية.
وتم تقييم الروبوت من عدة نواحٍ، منها أهمية الاستخدام في الفضاء، الأهمية الصناعية، الأهمية الإنسانية، مستوى الجاهزية التقنية، ومستوى الإبداع الفني.
وقد تم تطويره بالتعاون التقني بين وكالة ناسا وشركة “جنرال موتورز”، ضمن إطار اتفاقية طويلة الأمد، هدفت إلى تطوير جيل من الروبوتات متنوّعة الوظائف وترقية التكنولوجيات المرتبطة بها لاستخدامها في وسائل النقل الأرضيّة والصناعات الفضائية.
ووصف خبراء ناسا حينها الروبوت بأنه “الروبوت البشري ذو اليدين الأكثر تطورًا على الإطلاق.” وتعود فكرة بنائه لبضع عقود سابقة، عندما شعر مهندسو الفضاء بالحاجة الماسّة لروبوت مرن يشبه الإنسان، يمكنه استخدام يديه لإنجاز أعمال دقيقة تتصف بالخطورة على حياة الإنسان، مثل العمل تحت درجات حرارة شديدة الانخفاض أو في النطاقات الفضائية التي تكون فيها قوة الجاذبية ضعيفة للغاية.
ورغم كل ما تحقق حتى اليوم، فإن فكرة إقامة مستعمرات روبوتات على كواكب خارج الأرض بعيدًا عن سيطرة الإنسان هي فكرة مثيرة للاهتمام، لكنها ما زالت تنتمي بشكل كبير إلى عالم الخيال العلمي، حتى وإن كان التطور التكنولوجي يفتح بعض الأبواب نحو تحقيقها.
مع ذلك، هناك نقاط يمكن مناقشتها حول الإمكانية المستقبلية لهذا السيناريو، ومنها:
● التطور التكنولوجي المتسارع: الروبوتات المزودة بالذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر قدرة على العمل بشكل مستقل، مما يجعل من الممكن مستقبلاً تطوير أنظمة قادرة على إدارة نفسها بشكل كامل على كوكب آخر.
● تحمل الظروف القاسية: بخلاف البشر، يمكن تصميم الروبوتات لتحمل الظروف القاسية مثل الإشعاعات العالية، الجاذبية المنخفضة، والحرارة الشديدة أو البرودة القارسة، مما يجعلها مرشحة قوية للبقاء على كواكب غير مضيافة.
● الاستقلالية في العمل: يمكن برمجة الروبوتات للعمل بشكل مستقل، مما يتيح لها إنشاء بنى تحتية أساسية مثل المحطات أو أنظمة الطاقة دون الحاجة إلى تدخل بشري مستمر.
● تقنيات التعدين الفضائي: يمكن للروبوتات استخدام تقنيات التعدين لاستخراج الموارد على الكواكب وتدعم تأسيس مستعمرات ذات اكتفاء ذاتي.
لكن، هذا لا يلغي وجود عدد من التحديات التي يجب تجاوزها، ومنها:
● محدودية الذكاء الاصطناعي الحالي: رغم التطورات الكبيرة، ما زال الذكاء الاصطناعي بعيدًا عن القدرة على اتخاذ قرارات إستراتيجية معقدة بشكل مستدام دون تدخل بشري.
● مخاوف فقدان السيطرة: وجود مستعمرات روبوتية مستقلة تمامًا قد يثير مخاوف بشأن فقدان السيطرة على هذه الأنظمة، أو حتى تطورها بطريقة تُشكل تهديدًا للإنسانية.
● التكلفة والتقنيات المطلوبة: إرسال الروبوتات وتوفير الدعم اللازم لها على كوكب آخر يتطلبان تقنيات متقدمة للغاية واستثمارات مالية ضخمة.
● صعوبة التواصل: بسبب المسافات الشاسعة بين الكواكب، فإن التحكم البشري أو حتى إرسال تحديثات للروبوتات المستقلة قد يكون تحديًا كبيرًا بسبب التأخر في الاتصالات.
في المستقبل القريب على الأقل، من المرجح أن تُستخدم الروبوتات بشكل أساسي في دعم جهود البشر لاستكشاف الفضاء، مثل إعداد بنى تحتية أو استخراج الموارد لبعثات مأهولة.
أما سيناريو إقامة مستعمرات روبوتية مستقلة خارج نطاق السيطرة البشرية، فإنه يعتمد على تحقيق قفزات نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء. ومع ذلك، يبقى احتمال حدوث ذلك ضئيلا، على الأقل في المستقبل المنظور.
إذن، هذا السيناريو، رغم كونه مثيرًا، ما زال أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع حاليًا. لكن ربما يحمل العلم مفاجآت لم نعرفها بعد!