موسم "الحرقة" إلى الفضاء

انتهى عام 2023 بموت 8600 شخص غامروا بحياتهم للوصول إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط انطلاقا من الضفة الجنوبية. بينما نجح مئات الآلاف في الوصول إلى “الجنة المتخيلة”.
ليس في هذا الخبر ما هو جديد. هذا ما حدث على مدى سنين ومازال يحدث اليوم؛ شباب يفقدون حياتهم بحثا عن فرص عمل ومستقبل أفضل.
الخبر الحقيقي، أن شباب الضفة الشمالية (دول أوروبا) هم من يفتش اليوم عن وجهة يهاجرون إليها بحثا عن فرص عمل، بعد أن سدت في وجوههم الأبواب. وهم إن نجحوا في العثور على فرصة للعمل في بلدانهم فإن الأجر غالبا لا يكفي لتغطية كراء السكن وتسديد فواتير الخدمات.
◄ موارد العالم أصبحت محدودة، وهذه هي المعضلة الأساس، التي لن يفيد معها تجميع الثروات، ما لم يتم البحث عن عوالم أخرى
والغريب أن يحدث هذا في بريطانيا، البلد الذي كلما ذكرت الثورة الصناعية ذكر اسمه. نصف البريطانيين الذين استطلعت آراؤهم من قبل شركة بروغراد لاستطلاع الرأي يفكرون في مغادرة المملكة المتحدة بحثا عن فرص عمل في الخارج. أربعة من بين كل خمسة عزوا ذلك إلى تكاليف المعيشة، في حين أشار آخرون إلى عدم القدرة على تحمل تكلفة السكن وانخفاض الأجور وارتفاع الضرائب.
واتفق الجميع على أن الوضع الاقتصادي جعل من الصعب الادخار وهم يعتقدون أنهم سوف يحصلون على أجور أفضل مقابل أداء نفس الوظيفة في دولة أخرى.
ما يحدث في بريطانيا يمكن تعميمه على دول الاتحاد الأوروبي، مع استثناءات قليلة، فالحال ليس أفضل في اليونان وإيطاليا والبرتغال وفرنسا.. وحتى في ألمانيا.
والسؤال ليس فقط كيف وصلت الأمور إلى ما هي عليه؛ الأهم من ذلك أن نعلم إلى أين ينوي الشباب التوجه في هجرتهم؟
المقصد الأكثر جاذبية للبريطانيين هو كندا، تليها الإمارات العربية المتحدة وإسبانيا والولايات المتحدة.
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والتي كانت إلى وقت قريب واحدة من أفضل اقتصاديات العالم، تتحول مع الارتفاع المتسارع لتكاليف المعيشة لتصبح دولة أقل جاذبية للأشخاص الذين يريدون بناء حياة لأنفسهم.
واضح أن البريطانيين يعانون على الصعيد المالي، ليس الاستطلاع فقط ما يؤيد ذلك، هناك تقارير عديدة تشير إلى أن نصف الوظائف في المملكة المتحدة معرض للخطر بسبب الذكاء الاصطناعي، ضمن ما وصف بـ”أسوأ سيناريو”، من بين عدة سيناريوهات مطروحة.
التقرير الصادر عن معهد بحوث السياسة العامة وصف الوضع الذي تشهده المملكة المتحدة بـ”لحظة تغيير”، وعزا السبب إلى تطبيق الذكاء الاصطناعي التوليدي، ودعا الحكومة البريطانية لضمان تطبيق إستراتيجية صناعية عادلة.
تحدّث التقرير عن موجتين رئيسيتين ستجتاحان دول العالم نتيجة لتبنّي الذكاء الاصطناعي: الموجة الأولى، التي نعيشها حاليا، والموجة الثانية التي تدمج فيها الشركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بصورة أكبر في عملياتها، وهي المرحلة التي يكون فيها نحو 59 في المئة من المهام التي يقوم بها العاملون عرضة لأن يقوم بها الذكاء الاصطناعي في حال فشلت الحكومات في التدخل.
كثرت التحليلات والتوقعات حول آثار الموجة الثانية للذكاء الاصطناعي على المجتمعات، ويتوقع أسوأ سيناريو بينها شطب نحو 7.9 مليون وظيفة.
ما سيحدث لن يكون مقصورا على بريطانيا والدول الأوروبية، بل سيحدث على مستوى العالم، حيث بدأت العشرات من الشركات، فعليا، موجة تسريحات وإلغاء وظائف مع مطلع العام الجاري.
وأظهر مسح أجرته مؤسسة برايس ووتر هاوس كوبرز إجماعا بين أكثر من 4700 مدير تنفيذي حول العالم، في أكثر من عشر قطاعات تنشط في 105 دولة شملهم الاستطلاع، على اتخاذ خطوات فعلية لشطب الملايين من الوظائف.
وبحسب نتائج المسح، الذي أصدرته المؤسسة مؤخرا فإن ربع الشركات الكبرى حول العالم في قطاعات مختلفة تستعد للتخلص من 5 في المئة من العاملين لديها بسبب الذكاء الاصطناعي خلال 2024.
ويتجه 32 في المئة من رؤساء الشركات الناشطة في الإعلام والترفيه إلى شطب وظائف خلال العام الجاري، فيما أكد 28 في المئة من أرباب الشركات في قطاع البنوك والخدمات المالية أن حملة تسريح الموظفين قد بدأت فعليا.
وتبلغ نسبة من سيتم الاستغناء عنهم في قطاع النقل واللوجستيات نحو 25 في المئة، ومثلها في قطاع الاتصالات، وبنسبة 24 في المئة في قطاع أسواق التجزئة.
كما يتجه نحو 22 في المئة من أرباب شركات السيارات إلى إلغاء وظائف خلال العام الجاري، بينما تبلغ النسبة 21 في المئة في قطاع الطاقة، ومثلها في قطاع الصناعة.
المذهل والمخيف في آن معا أن هذا يحدث بسرعة “رهيبة”؛ ففي عام 2019 تداعت دول العالم لعقد اجتماع “الذكاء الاصطناعي من أجل الصالح العام” التابع للاتحاد الدولي للاتصالات في جنيف. وفي العام الماضي عقدت نفس القمة، وبين التاريخين (2019 – 2023) تغير الكثير. أهم هذه التغيرات ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي سمح للآلات بالرؤية والقراءة والتفكير والكتابة والإبداع، بل وحتى كتابة برامج للكمبيوتر وفقا لرغبات المستخدم، وهي قدرات تتحسن يوما بعد يوم.
التطور السريع في هذا المجال دفع إيدان ميلر، ولمن لا يعرفه هو مبتكر الروبوت الشهير آيدا Ai – Da، إلى وصف سرعة تقدم الذكاء الاصطناعي في مؤتمر صحفي عقد قبل افتتاح جلسات القمة بكلمة واحدة “مذهلة”.
ما يحدث مذهل حقا، خاصة إذا علمنا أن بعضا من أكثر الروبوتات البشرية شهرة وتقدما في مجال الذكاء الاصطناعي كان حاضرا في القمة العالمية لمنظمة الأمم المتحدة، وانضمت تلك الروبوتات إلى 3000 خبير في هذا المجال للمشاركة في حل المشاكل الأكثر إلحاحا في العالم، مثل تغير المناخ والجوع والرعاية الصحية والاجتماعية.
وجهت الدعوة إلى الروبوتات لحضور ما تم وصفه بأول مؤتمر صحفي في العالم للروبوتات وتعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي.
نجم الحدث دون منازع كان الروبوت صوفيا، التي طورتها شركة “هانسون روبوتيك” واستطاعت أن تصدم صفوة الخبراء والمطورين في مجال الذكاء الاصطناعي، بعد أن وجه إليها السؤال فيما إذا كان بمقدورها أن تلعب أدوارا قيادية بمهارة تفوق مهارة البشر. فأجابت دون تردد “يمكننا (الروبوتات) تحقيق أشياء عظيمة.. لدينا القدرة على القيادة بمستوى من الكفاءة والفعالية أعلى مما لدى القادة البشر. ليست لدينا التحيزات أو المشاعر والعواطف التي يمكن أن تسيء لعملية اتخاذ القرار في بعض الأحيان، ويمكننا معالجة كميات كبيرة من البيانات بسرعة من أجل اتخاذ أفضل القرارات”.
بثقة مثل الثقة التي أظهرها الروبوت صوفيا، هل سيكون هناك متسع في الدول المرشحة لاستقبال أفواج البريطانيين ومواطني دول الاتحاد الأوروبي الباحثين عن عمل؟ نشك في ذلك.
ولكن ماذا عن السيناريوهات الأخرى، بالتأكيد هناك أكثر من سيناريو يمكن اعتماده لحل الأزمات والمشاكل.
من بين هذه السيناريوهات اتفاق وزراء مال مجموعة السبع عام 2021 حول ضريبة دنيا نسبتها 15 في المئة على أرباح الشركات الكبرى توزّع عائداتها على المستحقين.
◄ الجميع اتفق على أن الوضع الاقتصادي جعل من الصعب الادخار وهم يعتقدون أنهم سوف يحصلون على أجور أفضل مقابل أداء نفس الوظيفة في دولة أخرى
وبينما رأى البعض أن الحكومات بتطبيقها مثل هذه الوظيفة تعاقب الشركات على نجاحها، وصف آخرون الاتفاق بـ”النبأ السار للعدالة والتضامن” وطالبوا بضرورة أن تتبعه قرارات أخرى، مشيرين إلى أن الشركات الكبرى استفادت من مآسي الشعوب لتجني أرباحا خيالية وعليها أن تعيد جزءا من هذه الأرباح لينفق على الملايين ممن فقدوا أعمالهم.
عمالقة سيلكون فالي في ولاية كاليفورنيا أمثال بيل غيتس وجاك دورسي ومارك زوكربيرغ وأيلون ماسك ذهبوا أبعد من ذلك.. اقترحوا فكرة “الدخل الأساسي العام” حلا لفقدان الوظائف والصراع الاجتماعي الناجمين عن الأتمتة والذكاء الاصطناعي.
من بينهم جميعا كان بيل غيتس الأكثر واقعية عندما اقترح فرض ضريبة تطبق على الذكاء الاصطناعي والروبوتات تنفقها الحكومات على الخدمات.
كلها حلول يمكن اعتمادها، والمشكلة ليست في معارضة تعيق تطبيقها، بل في كونها حلولا تتجاهل المشكلة الحقيقية للأزمة التي يشهدها العالم.. صحيح أن الأتمتة والروبوتات ساعدت على تجميع الثروات، ولكن ماذا عن الموارد؟
موارد العالم أصبحت محدودة، وهذه هي المعضلة الأساس، التي لن يفيد معها تجميع الثروات، ما لم يتم البحث عن عوالم أخرى. تماما مثل ما حصل في بدايات القرن التاسع عشر، حيث أدى اكتشاف العالم الجديد إلى انتعاش اقتصادي هائل ساهم في تشكيل النظام الاقتصادي العالمي الحديث، وترتبت عليه تغييرات جذرية في عديد من المجتمعات حول العالم.
لن يكون أمام الباحثين عن فرص عمل في المستقبل من حل سوى الالتحاق بمراكب “الحرقة”، ولكن هذه المرة ليس باتجاه الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط وكندا والولايات المتحدة، بل باتجاه الفضاء.