موسم الألغام في الجزائر

الأمر لا يتصل بموسم طبيعي تقام فيه الطقوس المتوارثة اجتماعيا كالشتاء والربيع، بل باستحقاق سياسي تحول في ظل الغموض والضبابية إلى موسم تميزه طقوس تخرج تماما عن المألوف، فبدل أن يكون فرصة للمنافسة السياسية وإبراز القدرات على إقناع الشارع، يجري تلغيم المسار بمختلف المتفجرات من أجل الحيلولة دون وصول الخصم إلى نقطة النهاية.
باستثناء السياسي ورئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان، الذي قدم رؤيته وقراءته الخاصة للوضع السياسي الجزائري ولتقديم موعد الانتخابات الرئاسية، وعبر عن رأيه في حصيلة الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، ودعاه بكل جرأة إلى عدم التقدم مجددا من أجل ولاية رئاسية ثانية، فإن البقية الباقية في الطبقة السياسية والفعاليات الأهلية والشخصيات المستقلة سواء كانت في خندق المعارضة أو الموالاة، مازالت تلتزم الصمت وتكتفي بالترقب والانتظار.
دأبت الجزائر في العقود الأخيرة على أن تكون الانتخابات الرئاسية وجها من أوجه الأزمة، بدل أن تكون حلا للأوضاع والأزمات المستجدة، والسببُ حسب وصف الإعلامي المخضرمِ “أصحابُ الحق الإلهي”، ويقصد بذلك الدوائر الخفية والنافذة التي تعودت على صناعة الرؤساء في البلاد، لا تجمع على مرشح معين، ولذلك عادة ما يلجأ الطرف غير المحظوظ إلى لعبة زرع الألغام وتفجيرها بهدف عرقلة مرشح ما.
◄ الغموض والضبابية هما الفضاء المفضل للفاعلين الحقيقيين في المشهد الجزائري، والشفافية والنزاهة هما الضحية الكبرى في تفاعلات المرحلة
قرابة خمس سنوات تنقضي من عهدة الرئيس تبون، ولم يتمكن الشارع الجزائري من إجراء نقاش حقيقي حول حصيلة الرجل، فلا الموالاة ملكت من الأدوات ومن الخطاب ما يقنع الناس بالمشهد الوردي، ولا المعارضة خرجت إليهم لتصف لهم الوجه الأسود، فمنذ انتخابات 2019 لم تقدم خطة بديلة لمواجهة ما تصفه بآلة القمع والتضييق واكتفت برد الفعل، أما الموالون فقد هيمن عليهم الارتباك، خاصة بعد رسالة الشراكة التي أقامتها السلطة مع المجتمع المدني، وأبعدت أذرعها السياسية عن الواجهة، فصارت عاجزة حتى عن تأطير ما تبقى لها من قواعد شعبية.
لقد اضطرت الرئاسة الجزائرية إلى إصدار بيان لتكذيب شائعة انتشرت كالنار في الهشيم حول مراجعة شروط الاستفادة من منحة البطالة المقدرة بنحو مئة دولار أميركي، وهو أمر كان بالإمكان أن تضطلع به أي مؤسسة حكومية أو مديرية مركزية، لولا القلق والخوف من انعكاسات ذلك على شعبية الرئيس تبون، خاصة وأن المسألة أثيرت شهورا قليلة قبل موعد الانتخابات، والمنحة ذاتها تمثل وعاء انتخابيا يقدر بمليوني ناخب.
وبغض النظر عن الجهة التي فجرت اللغم بمنشور منسوب لوزارة العمل، فإن المنافسة السياسية لا يمكن أن تقوم على هذا النحو ولا يمكن للاستحقاق أن يفرز مخرجا معبرا عن إرادة الجزائريين؛ فالرجل إلى حد الآن، ومهما كان موقفه وظروفه للتقدم إلى خوض الاستحقاق من عدمه، هو في إطار ما يكفله دستور الدولة، ومن حقه أن يطلب التجديد في قصر المرادية.
وكما كان بإمكان الجهاز الرئاسي أن يعالج المسألة في إطارها الحقيقي لو كان واثقا من نفسه، فإن من أثار اللغط كان بإمكانه أن يظهر للرأي العام وينتقد هذه الجزئية من مجموعة أجزاء تشكل منها برنامج الرجل في 2019، وكان بإمكانه أن يقول للجزائريين إن منحة البطالة التي تكلف خزينة الدولة زهاء ملياري دولار، ورغم مفعولها ودورها في ضمان حد معين من العيش للبطالين، تفتقد إلى البعد الاقتصادي؛ لأن المنحة الاجتماعية في الاقتصاد الأميركي يتم بواسطتها تقييم قيمة الدولار، وفي الجزائر منذ الاستقرار على مليوني مستفيد، لا يزال الرقم ثابتا، وهو ما يعني أنها غير مرتبطة بمعياري البطالة وفرص الشغل.
◄ الجزائر دأبت في العقود الأخيرة على أن تكون الانتخابات الرئاسية وجها من أوجه الأزمة، بدل أن تكون حلا للأوضاع والأزمات المستجدة
هكذا تعوّد الجزائريون في مثل هذه المناسبات على تفجير الألغام داخل السلطة وفق نمط النيران الصديقة، كمؤشر على غياب الإجماع داخل دوائر القرار على هذا المرشح أو ذاك، وهو تقليد متوارث في صناعة الرؤساء، بدل أن تكون الفرصة للشارع يختار فيها رئيسه بكل حرية وشفافية ووفق برنامج سياسي معين.
تبون معرض خلال هذه الأشهر لمجموعة من الألغام، فبعد منحة البطالة جاءت قضية منع الإعلامي فريد عليلات من دخول بلاده في أكبر انتهاك للتشريعات والدستور الذي يكفل حرية التنقل لجميع الأفراد ما لم يكن هناك مانع قانوني، وهو ما لم يتوفر في حالة الصحافي المذكور، ولو كانت المسألة تتعلق بخط تحرير المجلة التي يشتغل فيها، بحسب التوضيحات التي قدمها وزير الاتصال محمد لعقاب، فإنه كان بالإمكان التعامل مع الأمر بصيغة أخرى، إلا قرار المنع وإعادته من حيث أتى.
وهذا لغم آخر يريد به أصحابه عرقلة أو التشويش على طموح سياسي لرئيس جمهورية مازال يتحرك في إطار الدستور، ولو امتلك هؤلاء الجرأة لواجهوه بنفس جرأة جيلالي سفيان، وأطلعوا الجزائريين على الوجه الأسود الذي يريدون تسويقه بطرق غير شرعية، فالسلطة إلى حد الآن لم تجد القوة المقابلة التي يمكن أن تنزلها من عليائها وتغولها، ولذلك لا تتوانى في رسم جدارياتها الوردية بينما الواقع يروي غير ذلك بالنسبة إلى قطاع عريض من الجزائريين.
الغموض والضبابية هما الفضاء المفضل للفاعلين الحقيقيين في المشهد الجزائري، والشفافية والنزاهة هما الضحية الكبرى في تفاعلات المرحلة، فمن لا يريد تبون يحرص على افتعال مختلف العراقيل حتى ولو كانت بشدة الألغام السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن يحيط به لا يجرؤ على تسمية الأشياء بمسمياتها، فعادة ما يسجل تلك الحوادث على ذمة “مجهول”، وفي أحسن الأحوال ينسبها إلى فلول النظام السابق، منذ ندرة السيولة ومياه الشرب إلى غاية شائعة منحة البطالة ومنع مواطن جزائري من دخول تراب وطنه.