موت على عجل
“اذهب حالا” و“ لنر..!”، كانت أجوبة مقتضبة عائمة فوق غيوم جبال الألب أطلقها عن سابق تصور وتصميم مساعد الطيار الانتحاري أندرياس لوبيتز وهو يتحاور مع قائد الطائرة قبل أن ينجح في إقناعه بمغادرة قمرة القيادة إلى دورة المياه، حتى يتاح له الوقت الكافي لإحكام سيطرته على المقود واستخدام الطيار الآلي لتنفيذ مخططه بتحوير اتجاه الطائرة هبوطا مفجعا باتجاه أودية الألب، لتنتهي حياة 150 راكبا ضمنهم تلاميذ مدرسة ثانوية عادوا لتوهم من رحلة مدرسية قصيرة.
كشفت مكونات الصندوق الأسود للطائرة الألمانية المنكوبة التي كانت في رحلتها من برشلونة الأسبانية متوجهة إلى مطار دوسلدوف الألماني، عن أن قائد الطائرة حاول مرارا العودة إلى المقصورة بعد أن شك في نوايا مساعده القاتل، لكن دون جدوى فالباب كان مغلقا من الداخل، ولم تسجل اللحظات الأخيرة قبل حدوث الكارثة سوى صراخ الطيار وهو يحاول كسر الباب بعد أن أدرك اقتراب لحظة النهاية، ثم تتسارع أنفاس المعتوه لوبيتز وهو يضحي بأرواح ركاب أبرياء قربانا لجنونه.
كان المساعد الذي منح رخصة الطيران والتحليق الآمن بعباد الله، يعاني من اكتئاب نفسي حاد وربما تقبع في سجله الطبي محاولة انتحار واحدة أو أكثر، حيث وجد المحققون الألمان بعد تفتيش شقته في دوسيلدورف مجموعة من التقارير الطبية الممزقة، تثبت نيته إخفاء مرضه كي لا يخسر رخصة العمل، فضلا عن أن التاريخ المدون في أحد التقارير يثبت عدم صلاحيته لممارسة عمله إلى أمد زمني يتجاوز بكثير تاريخ الرحلة المنكوبة، أي أن القاتل كان غير مؤهل للتحليق في يوم الحادث.
خبير بريطاني في السلامة الجوية عبر عن قلقه واستغرابه من ملابسات الحادث، مشيرا إلى أن القاتل نجح في إخفاء مرضه بسبب وجود فجوة في النظام الصحي العام للملاحة الجوية، حيث تفرض القواعد السرية حظرا على الأطباء لتسريب أي معلومات شخصية تخص مرضاهم حتى عن مرؤوسيهم في العمل.
بعد أيام قليلة على مرور كارثة الألب، كان المسافر الغاضب الذي يستقل الطائرة المتوجهة من جنيف إلى كوسوفو، قد نجح في تسديد لكمة متوسطة السرعة لملامح مضيفة الطيران المرتعبة لأنه “انتظر طويلا” الشطيرة التي أمر بها لتسكين جوعه من دون جدوى، وبعد أن صرخ في وجهها وأوقعها أرضا محاولا تسديد مزيد من الضربات تدخل بقية الركاب وأفراد الطاقم، لتنتهي الواقعة بهبوط اضطراري في مطار روما الإيطالي.
الأخطاء القاتلة التي تتسبب في حوادث الطيران مصدرها دائما الإنسان: موظف متقاعس، مهندس صيانة غبي، مراقب جوي نعسان، إرهابي حقير، مجنون فقد اتجاهه أو معدة جائعة، حتى الأرواح الهائمة يمكنها أن تتجول بخفة بين مقصورة القيادة ومقاعد الركاب من دون أن تجد لها رادعا. وحين يأتي من يقول بأن الطيران من أكثر وسائل النقل أمانا للمسافرين، فهو لم يتسن له -بالتأكيد- الجلوس في مقعد هزاز لطائرة ستصبح منكوبة بعد لحظات.
لا أمان على الأرض ولا أمان في السماء، لكن الموت هنا قد يأتي بأقصى سرعته عندما يكون إنسان ما على ارتفاع آلاف الأمتار من مستوى سطح البحر، كما ستحصل روحه المسكينة على بضع باقات من الزهور عن عودة أدراجها إلى المطار الذي أقلعت منه، لكن من دون حقائب أو جسد. الحمد لله، الأمر سيمر سريعا من دون ألم، فلا حاجة لثقب رؤوس الضحايا أو حرقهم.