مواهب فنية تحاول إثبات وجودها في التشكيل السوري

لا زمن ولا عائق يمنع أن تظهر الموهبة الفنية الحقيقية. والكثير من الناس قد تقذفهم الحياة في مساراتها بعيدا عمّا كانوا يحبونه من فنون في طفولتهم لكن جوهر الموهبة وإصرارهم على نبشها من جديد سيكون ناجحا لو ساروا بالمنهج الصحيح. في دمشق، قدمت مجموعة من خريجي مركز فني للفنون الجميلة ما يؤكد ذلك.
دمشق - بعد عامين من العمل الدؤوب في تعلم تقنيات الفن التشكيلي، خَرج معهد أدهم إسماعيل للفنون الجميلة بدمشق بستة عشر مشاركا في أحدث دوراته، قدموا فيها أربعة وأربعين عملا تشكيليا في رسم الطبيعة وبعض الحالات الإنسانية في المجتمع والحياة. وعبر أفكار هؤلاء الخريجين ظهر المعرض الذي حقق صدى طيبا لدى جمهور الفن التشكيلي عموما في دمشق.
قدم خريجو المركز طيفا واسعا من الأفكار التشكيلية التي تمازجت فيها رؤاهم الحياتية المختلفة. فوجد الريف بشكل واضح لدى العديد من المشاركين، كما قدم بعضهم تفاصيل لحياة المدينة السورية المعاصرة بما تحمله من قسوة في العيش، وهي المتعلقة بالكسب اليومي.
بعض اللوحات جسد معاناة الأطفال في سوريا في جمع بعض الحاجيات من مكبات القمامة وهو المشهد غير الموجود في سوريا ما قبل زمن الحرب. كما عبّر البعض بثيمات فكرية ولونية رشيقة عن تفاصيل تتعلق بالأوقات التي تعيشها الأسر في ظل انقطاع الطاقة الكهربائية والعيش على ضوء الشموع.
في لوحة مثلت هذا الواقع، تذهب الفنانة نورة إبراهيم شونو إلى تجاوز حدود المعاناة لترسم لقطة جميلة تتمثل في جلسة بسيطة لرجل وامرأة تسكنهما، رغم مرارة العيش، لحظات ود، حيث تقوم الزوجة بتحضير بعض الفاكهة وتعطي زوجها منها ليأكلا بسلام وسعادة.
تميز لافت
وفي ثلاثية رسوم تجسد الفنانة الشابة نورة إبراهيم شونو وهي خريجة اقتصاد ترجمت رسوماتها بتعريف كتبت فيه “الانتظار آفة الروح ومهلكها وما الحياة إلا انتظار”. رسمت في لوحتها عاشقة تمسك بيدها رسالة من حبيب وفي الثانية أمّا تعد أيام الشهر مع المفكرة في انتظار أحدهم.
أما موسى الأسود وهو أكاديمي مسرحي معروف، وكان أحد خريجي هذه الدورة، فقدم مشاركة له تمثلت في رصد معنى عذابات الطفولة، فرسم طفلة تبيع الورود في عمر كان يجب أن تهدى إليها الورود، كما رسم طفلا يعزف على مزمار خشبي ليبهج الناس في الوقت الذي كان يفترض أن هنالك من يبهجه.
اللوحة التي فازت بالمركز الأول كانت للمشاركة لميس أحمد زنبوعة، وتمثل رجلا يحمل بين يديه خروفا صغيرا وسط بستان مليء بالأزهار والنباتات في إشارة إلى كون الأرض مصدر الجمال والتجدد والسلام.
كتبت الفنانة في تعريف لوحاتها “في الأرض ما يكفي حاجة كل إنسان.. منا العمل ومن الأرض العطاء والأمل”. كما رسمت الفنانة لوحتين أخريين حملتا نفس الأجواء ترصد عوالم الريف المليء بتكوينات خضراء في دلالة على العطاء.
لميس زنبوعة الفنانة التي حققت المركز الأول سيدة صارت جدة، ولكنها لا تزال تملك الطموح لكي تصنع فنا وأسلوبا خاصا بها في الرسم. هي صيدلانية لكنها بدأت الدراسة في الفن وتتابع مسيرتها فيه.
تقول لصحيفة “العرب”، “كنت أشعر دائما بميلي للفنون والأدب، وسبق أن كتبت رواية فازت بمسابقة لأدب الأطفال في سوريا عام 2008. عندما انتسبت إلى المركز كنت على ثقة أنني سأصنع شيئا مميزا فيه، لأنني جدية في توجهي وصادقة فيه. السن لم يكن عائقا أبدا في توجهي نحو الفن، أنا أبحث دائما عن إطار فني لما أريد قوله. درست الصيدلة وعملت بها طويلا، لكنّ عائقا صحيا منعني من المتابعة فيها، وعندما اتجهت للفن كنت على يقين أنني أملك شيئا أريد أن أقوله”.
وعن مسألة التنسيق وتعدد المسؤوليات التي تواجهها في حياتها العملية والحيز الذي سيناله الفن تتابع قائلة “أسست أسرة وأنجبت أطفالا، وقدمت لهم كل العناية والمتابعة برفقة زوجي المتفهم لطبيعة عملي ووقتي وطموحاتي، وعندما كبروا تزوجوا وأسسوا أسرا خاصة بهم. أنا سعيدة جدا بإنجازي في هذا الاتجاه. هاجس الفن كان موجودا دائما عندي، والسن لا يشكل لي أيّ عائق في التعلم والتدرب. فرغم كوني في هذا العمر انتسبت إلى مركز أدهم إسماعيل وتدربت على أيدي أساتذة كبار قدموا لنا كل المعرفة اللازمة لتعلم الرسم. وكنت جدية في متابعة الدراسة والقيام بالتمارين، حتى وصلنا إلى تحقيق لوحات التخرج بعد إتمام مرحلة التعلم والتمرين”.
وتابعت “اخترت بيئة ريفية أعرفها في منطقتي التي أعيش فيها، ورسمت فلاحا يحمل خروفا بين يديه في جو ريفي بديع. وحازت اللوحة على المركز الأول في تقييم الأساتذة المختصين وأنا سعيدة بذلك. تملّكني شعور بالفرح الغامر، وأن الحياة ما زالت مليئة بالكثير من الأهداف التي يمكن تحقيقها”.
يحضر الريف في لوحات الفنانة ميساء محمد ديب. وتصور به ثيمات بالغة الدقة، وتقول في تقديم لوحاتها “الحنين إلى الانتماء، الأحبة هاجروا، أخذوا المكان وهاجروا، وأخذوا الزمان وهاجروا، أخذوا روائحهم عن الفخار والكلأ الشحيح وهاجروا، أخذوا الكلام”.
الريف والموسيقى
ترسم في إحدى لوحاتها شبكة عنكبوت، كما ترسم صورة بابور الكاز القديم الذي كان موجودا في حياة السوريين بقوة، لكنه غاب مع التطور الحضري. كذلك تحضر الموسيقى في لوحاتها الثلاث المشاركة.
تقول لصحيفة “العرب”، “لم أكن أعرف شيئا عن الرسم قبل انتسابي إلى هذه الدورة في المركز. منذ الطفولة كنت أشعر برغبتي في الرسم، ولكن الحياة أخذتنا لما هو بعيد عنه. درست في معهد الفنون التطبيقية، وعملت مطولا بعيدا عن الرسم، في إحدى الأماسي طلبت من زوجي أن أرسمه، فضحك أولا ولكنه قبل، فرسمته، وعندما شاهد الصورة ودرجة الشبه بينه وبين الصورة أيقن أنني أحمل موهبة جدية بالرسم. شجعني على الاهتمام بالأمر أكثر. لاحقا توجهت إلى المركز و صرت من طلابه وبعد سنتين من التدريب تخرجت مع مجموعة الزملاء”.
وتتابع تعليقا على ما رسمته “أنا ابنة الريف وأحب تفاصيل حياة الريف وبعض الشخوص فيه الذين يمتلكون حضورا خاصا. لذلك رسمت عجوزا في منطقتنا، تقوم بإعداد الخبز للناس على تنور قامت هي بصناعته. هذه السيدة تمثل لي في الحياة قيمة العطاء الدائم”.
وعن سبب وجود الآلات الموسيقية في لوحاتها دائما تقول “الموسيقى جزء أساسي في تكويني، لا يمكن ألا أستمع للموسيقى بشكل دائم. فهي ترافقني في كل تفاصيل حياتي مهما كانت صغيرة لذلك أحب أن أوجدها معي في كل اللوحات التي أرسمها”.
يعتبر مركز أدهم إسماعيل للفنون الجميلة أحد أهم الروافد التعليمية للفنون التشكيلية في سوريا، وعبر سنوات طويلة قدم للمشهد التشكيلي السوري فنانين شكلوا حضورا متميزا فيه. وعلى مدار العام يقوم بتقديم التأهيل المعرفي في فنون الرسم للطلبة الذين لم يتمكنوا من الدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة. ويلتزم الطلاب فيه لفترة تعليم تستمر عامين. وهو يتبع وزارة الثقافة السورية وحمل اسم الفنان السوري أدهم إسماعيل الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة بروما عام 1954 وشكل أحد أيقونات الفن التشكيلي السوري في مرحلة التأسيس.