من يُعيد فناني مسرح الكشاف إلى أحضان الخشبة

المسرح الوطني بطرابلس.. تاريخ حافل ينتهي إلى الضياع على أرصفة الشوارع.
السبت 2021/09/11
منبر ثقافي شهد إبداعات مسرحية خالدة لأكثر من سبعة عقود

أسعد قرار مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية بليبيا، نقل تبعية الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون إلى وزارة الثقافة والتنمية المعرفية ومقرّها الرئيسي إلى بنغازي، فناني المنطقة الشرقية، لكنه أثار لغطا واسعا بين فناني طرابلس والمنطقة الغربية، لاسيما في ظل غياب هيكلية واضحة للمؤسسات الثقافية، والفشل في إيجاد رؤية علمية وعملية لبناء حركة ثقافية فاعلة بآليات غير خاضعة لأمزجة المسؤولين.

جاء قرار مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية بليبيا، نقل تبعية الهيئة العامة للخيالة (السينما) والمسرح والفنون والمكونات التابعة لها إلى وزارة الثقافة والتنمية المعرفية على أن يكون مقرّها الرئيسي مدينة بنغازي، ليطرح عددا من الأسئلة المهمة حول مصير ملفات الفساد الذي نخر الهيئة خلال السنوات الماضية، ووضعيات الفنانين المرتبطين بها ولاسيما من داخل العاصمة طرابلس ومناطق غرب البلاد.

ومن بين هؤلاء فنانو المسرح الوطني الذين باتوا مشرّدين في المقاهي وعلى قارعة الرصيف، يواجهون عطالة فنية أجبرتهم عليها سياسات حكومية طالما سعت خلال السنوات العشر الماضية إلى تهميش الفن وتجاهل موقع الفنان ودوره الطلائعي في المجتمع.

أزمة خانقة

فتحي كحلول: مسرح الكشاف ملك للجميع في ليبيا فنانين وإعلاميين ومثقفين

تم تأسيس المسرح الوطني الليبي في العام 1966 مع إرهاصات تشكل النهضة الفنية والثقافية في البلاد، ومع بدايات السبعينات بدأت الحكومة في إرسال العشرات من الطلبة لدراسة الفنون المسرحية في دول من شرق وغرب أوروبا كإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وهنغاريا ويوغسلافيا وكذلك في دول عربية كتونس ومصر.

وفي بعض المراحل بلغ عدد الفنانين المنتسبين للمؤسسة أكثر من ثمانين عضوا، وهو ما أعطى زخما ثقافيا مهما لمجتمع ثري بالمواهب، وفسح المجال أمام الشباب المتوثب نحو الخشبة لينطلق في رحلة مهمة من العطاء والإضافة من خلال تجارب تتعدّد وتتنوّع بتعدّد وتنوّع المدارس المسرحية ومرجعيات أصحابها.

وعمل المسرح الوطني وفق النظم واللوائح الحكومية أو من الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون التي تأسّست في العام 1971، وقد اتخذ من مسرح الكشاف الذي افتتح في العام 1970 مقرا لنشاطه وفق عقد إيجار متفق عليه على أن تتولى الهيئة العامة للثقافة دفع مبالغ الإيجار.

وتعود ملكية مسرح الكشاف للمفوضية العامة للكشافة والمرشدات، والتي نتيجة تراكم الديون على المسرح الوطني، طالبت باستعادته وإخراج الفرقة منه، وساهمت الحكومات المتلاحقة منذ العام 2011 في تفاقم الأزمة.

وتنكّرت الهيئة العامة للخيالة والمسرح والموسيقى لتعهدات كانت تخضع في السابق لوزارة الثقافة، فتم في نوفمبر 2017 طرد فرقة المسرح الوطني من مسرح الكشاف، ورفضت الجهات المسؤولة التابعة آنذاك لحكومة الوفاق التدخل لحل الأزمة، بل إن بعض المشرفين على الهيئة العامة للثقافة والهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون تنكّروا للمسرح الوطني واعتبروه خارج اهتماماتهم وذلك في تناسق مع ميولاتهم الإخوانية والجهوية المعادية للفن الرابع وللفن عموما.

وقالت الحركة العامة للكشافة والمرشدات في ليبيا إن مسرح الكشاف في طرابلس بني بعرق وجهد قادة الكشاف منذ ستينات القرن الماضي وبتمويل كامل من ميزانية الحركة الكشفية، مشيرة إلى أنه تم افتتاحه عام 1970، وتم تأجيره من قبل الهيئة العامة للثقافة في الدولة آنذاك.

إبداع كبير
إبداع كبير

وأوضحت أن عقد الاستئجار الأخير مع الهيئة انتهى منذ عام 2009 وبأنهم حاولوا طيلة السنوات الماضية تسوية الملف مع الوزراء المتعاقبين إلاّ أن الأمر لم يتسن إلاّ الآن، ليتم بذلك استلام مبنى المسرح بعد أن أبدت الهيئة العامة للثقافة عدم احتياجها له، إلاّ أن الجهة المعنية والتي كانت تشغل المسرح وتديره وهي فرقة المسرح الوطني رفضت هذا الإجراء، وقد أشار بيان الحركة الكشفية إلى أنهم غير معنيين بعدم رضوخهم للقرار.

وبالمقابل، أكّد عاملون بالمسرح الوطني أن فرقتهم تكبّدت خسائر فادحة بعد أن استولت جهات مجهولة على ورشاتها ومنها ورشة النجارة والملابس والماكياج والإضاءة والمكتبة وغيرها، وكان مشهد تدخل ميليشيا الردع الخاصة لطرد الفنانين من مقرّ عملهم مهينا بشكل غير مسبوق في تاريخ المسرح الليبي، وأصاب الساحة الفنية والثقافية بصدمة أثارت الكثير من الجدل ودفعت نحو إصدار الكثير من التنديد والاستنكار سواء في العاصمة طرابلس أو في المدن الأخرى.

فنانو مسرح الكشاف يواجهون عطالة فنية أجبرتهم عليها سياسات حكومية سعت خلال السنوات العشر الماضية إلى تهميشهم

وقد حاول محمد البيوضي رئيس الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون في تصريحات صحافية أن يبدي تعاطفا مع مشكلات المسرحيين، قائلا “إلى جانب عدم وجود الميزانية لدعم الفرق الوطنية أو أهلية لخلق مسرح فعال في ليبيا، فهناك مشكلة انتزاع المسرح الوطني من قبل الحركة العامة للكشافة والمرشدات في ليبيا، ووجد المسرحيون أنفسهم دون خشبة يعملون فوق أرضيتها، لتطلق رصاصة الرحمة بحقهم”.

لكن مصادر مطلعة قالت إن ميزانية الهيئة وصلت إلى ستة وستين مليون دينار ليبي، أي ما يقارب خمسين مليون دولار بسعر الصرف الرسمي خلال حكم الوفاق، ومع ذلك لم يسع البيوضي إلى حل مشكلة المسرح الوطني بدفع الديون المتخلدة بذمته إلى الحركة العامة للكشافة والمرشدات، كما أن رئيس الهيئة العامة للثقافة حسن ونيس لم يقم بأي جهد في هذا الاتجاه، وهو ما زاد من حالة الغضب بين الفنانين وأثار عاصفة من الانتقادات الحادة في صفوف عشاق المسرح.

وردّت المصادر ذلك إلى سيطرة عقلية الثأر الميليشياوي من دور الإبداع كمصدر لقيم السلام والمواطنة، وغياب ثقافة الدولة والمؤسسات لدى مسؤولين دفعت بهم المحاصصة الجهوية والأيديولوجية إلى السلطة خلال سنوات عجاف واجه فيها الفنانون الليبيون التجاهل والتهميش وصولا إلى السخرية من دورهم. فعندما يرتفع صوت السلاح والممسكون به، تتراجع لغة الفن والإبداع وثقافة الحياة والوئام.

بيت الفنانين

فنانو المسرح الوطني بطرابلس يحتجون على إخراجهم من مقرهم
فنانو المسرح الوطني بطرابلس يحتجون على إخراجهم من مقرهم

قال مدير المسرح الوطني الفنان فتحي كحلول “يعتبر المسرح الوطني بطرابلس بيتا لكل المبدعين في ليبيا وحاضنة لكل الأنشطة المسرحية والفنية والثقافية طيلة تلك السنوات التي مرّت، ولقد مرَّ من خلاله أجيال من المبدعين تعلموا ودرسوا في المسرح الوطني وقدّموا إبداعهم على خشبة مسرح الكشاف، ومنذ أن تأسّس تقوم الثقافة بدفع إيجار المقر الخاص بفرقة المسرح الوطني، مسرح الكشاف، لصالح المفوضية العامة للكشافة والمرشدات؛ دعما للحركة الكشفية، وإن تأخّر الدفع في السنوات الأخيرة فهذا ليس ذنب الفنانين، لكن لظروف تمرّ بها البلاد والكل يعرفها”.

وأضاف “وجب كذلك النظر في إعادة مقار الفرق الأهلية للمسرح، التي تمّت السيطرة عليها واستغلالها وإيقاف دورها الثقافي مساهمة في قتل الوعي وإبعاد المثقفين عن دورهم الحقيقي، لكن هذا لا يعني أن يطرَد الفنانون من مقرهم وأن تقفل الأبواب في وجوههم لهذا السبب، فالمكان ملك للجميع فنانين ومبدعين وإعلاميين ومثقفي الوطن”.

وبيّن النائب السابق لرئيس اتحاد الفنانين الليبيين خليل العريبي أن “مسرح الكشاف بني في الأساس كخشبة مسرح لتقديم العروض المسرحية وهو المسرح الوحيد في مدينة طرابلس، فكيف نتجرّأ ونطرد الفنانين المسرحيين من هذا المنبر الذي هو حياتهم وشهد إبداعاتهم لأكثر من سبعة عقود”.

وأضاف “لا لحرمان الفنانين المسرحيين في طرابلس من مسرح أحيوه بمهرجاناتهم وأعمالهم المسرحية المميزة وتداولت عليه أجيال من الفنانين في كافة المجالات منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد شرف الدين وحميدة الخوجة وعمران المدنيني وشعبان القبلاوي وطاهر القبايلي ولطفية إبراهيم وفتحي كحلول وعبدالمجيد الميساوي وعلي الشول وخدوجة صبري وسعاد الحداد وسعد الجازوي وعلي القبلاوي وعيسي عبدالحفيظ وعبدالله الشاوش وإسماعيل العجيلي ويوسف الغرياني ومحمد الكور وغيرهم الكثير، كما استضاف عروضا مسرحية عربية زائرة”.

أعمال مسرحية مميزة تداولت عليه أجيال من الفنانين
أعمال مسرحية مميزة تداولت عليه أجيال من الفنانين

ودعا في النهاية إلى إنقاذ المسرح الوطني في طرابلس وإيجاد حلول لسبب إغلاقه وإعادة الحياة المسرحية والفنية لهذا الصرح التاريخي.

يقول أحد الفنانين إن المشهد بات مهينا، وهو غير مقبول، وليست له أي تبريرات مقنعة، فالمسرح الوطني بطرابلس يحمل إرثا عريقا ويعبّر عن وجدان الشعب وقد عرف على امتداد عقود خلت المئات من الأعمال الناجحة التي لاقت الإعجاب والاستحسان، وكان آخرها “بالمحلي الفصيح”.

وعندما قامت ثورة فبراير اعتقد المبدعون أن وضعهم سيكون أفضل، لكن سلطة الأمر الواقع التي فرضتها الميليشيات وشرّعت لها المحسوبية والمحاباة أدّت إلى خيبة كبرى، ولاسيما بوضع مسؤولين على القطاع الثقافي لا علاقة لهم بالثقافة والفن والإبداع، ولا بمنطق الدولة والمؤسسات، ولا بعراقة التاريخ الحضاري والثقافي، وإنما هم في أغلب الأحيان ممّن يستهزئون بدور الفنان ويرون فيه عالة على المجتمع، بل إن بعضهم لا يعترف أصلا بمهنة الفنان وهذا ما يحزّ في نفس الكثيرين ممّن قضوا أعمارهم على خشبة المسرح معتقدين أنهم يخدمون الشعب الذي ينتمون إليه ويتحدثون بضمير الإنسانية في أبهى تجلياته المبدعة.

وما قضية المسرح الوطني بطرابلس سوى واحدة من الحالات المأساوية التي يعاني منها الفنان الليبي، لكن الأمل يبقى ساريا في لفتة من حكومة الوحدة الوطنية تدفع نحو حل قضية الديون المتراكمة على هذه المؤسسة العريقة وإعادة عناصرها إلى مسرح الكشاف بعد أن تشتّتوا بين المقاهي وأرصفة الشوارع، فالمسرح حياة وحركة في اتجاه المستقبل، وإحدى الأدوات الناجعة لبناء المجتمعات ونشر المعرفة وتكريس قيم الحرية والمواطنة.

14