من لا يعمل لا يبقى.. خطاب الرئيس قيس سعيّد في وجه بيروقراطية التعطيل

المشهد التونسي مثقل بالأزمات الاقتصادية، والمخاوف الاجتماعية، والتأجيلات المربكة، وهو ما دفع الرئيس التونسي قيس سعيّد للتوجه بخطابٍ هو أقرب إلى إنذار وطني من كونه مجرّد تصريح سياسي. جرى ذلك أثناء لقائه برئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري يوم 25 يونيو – حزيران 2025. لم يكن خطابًا عاديًا في لغته، بل كان واضحًا في اتهامه ومباشرًا في موقفه: هناك من يعمل، من داخل مؤسسات الدولة نفسها، على تأجيج الأوضاع وتعطيل المصلحة العامة، وينبغي أن يُحاسَب.
حين يتحدث الرئيس عن “اللوبيات”، فإنه لا يخترع عدوّا افتراضيًا، بل يشير إلى واقعٍ يعرفه التونسيون جيدًا. كل مشروع متعطّل، كل طريق لم يُرصف، كل مستشفى لم يُنجز، ليس نتيجة نقص الأموال فقط، بل أحيانًا بسبب قرار إداري مُعلَّق عمدًا، أو توقيع محجوز، أو بيروقراطية يراد لها أن تُعيق لا أن تُدير.
خذ مثلًا مشروع مستشفى قفصة متعدد الاختصاصات، الذي ظلّ معطّلًا منذ 2016، رغم أهميته الحيوية للجهة. أو سدّ القلعة الكبرى، الذي توقفت أشغاله لسنوات قبل أن يُستأنف بصعوبة في 2024. أو مشروع تهيئة سبخة السيجومي، على أطراف العاصمة تونس، الذي يُفترض أن يُحوّل منطقة مهمّشة إلى واجهة حضرية حديثة، لكنه لا يزال في طور الإعداد رغم مرور سنوات على الإعلان عنه.
هذه ليست مجرد حالات فردية، بل نمط متكرّر من التعطيل الهيكلي، حيث تتشابك الإشكاليات العقارية، وسوء الحوكمة، والتراخي الإداري، لتُنتج ما يُشبه “الشلل التنموي”.
◄ خطاب الرئيس سعيد ليس ترفًا لغويًا، بل جزء من استعادة الدور المركزي للدولة كمؤسسة قادرة على إدارة نفسها.. بنفسها، دون أن تُختطف من أطراف تتقن العرقلة وتزدهر في الضباب
وقد أظهرت الحكومة، من جهتها، أنها بدأت تتحرك في هذا الاتجاه، حيث تمّ إحداث لجنة عليا لتسريع إنجاز المشاريع العمومية، وأُنجز جرد شامل كشف عن وجود 1126 مشروعًا معطّلًا، بعضها مموّل وجاهز، لكنه لم يُنفّذ بسبب عراقيل إدارية أو لوجستية.
في هذا السياق، تصبح لغة الرئيس سعيّد مفهومة: لا يمكن الاستمرار في استنزاف صبر المواطن باسم الأعذار الإدارية، خاصة عندما تُستخدم نصوص قانونية “كذريعة للتباطؤ”، كما وصفها الرئيس. لقد آن الأوان، في نظره، أن يُقال للأمور بأسمائها، وأن لا تبقى الإدارة محصّنة ضد المحاسبة لمجرد أنها تقنية لا سياسية.
واحدة من أقوى الجمل التي جاءت في الخطاب قوله إن “من طالت بطالتهم أجدر بأن يحلّوا محلّهم،” في إحالة مزدوجة: أولًا، إلى معضلة البطالة التي تخنق الآلاف من خريجي الجامعات، وثانيًا، إلى أداء إداري في بعض المواقع أصبح عبئًا على الدولة لا رافعة لها.
في دولة مثل تونس، حيث يتقاطع السياسي بالإداري، والمصالح الشخصية بالصالح العام، فإن تطهير الإدارة ليس شعاراتيًّا بل إنقاذيًّا. فلا تنمية بلا جهاز إداري نزيه وفعّال، ولا استقرار اجتماعيا مع تفشّي عقلية “نعم ولا… في آن“.
الرئيس سعيّد، منذ 25 يوليو – تموز 2021، انتهج مسارًا يعتبره البعض فردانيًّا ومركزيًّا، لكن الخطاب الأخير يُظهر أنه لا يستهدف فقط خصومًا سياسيين، بل يشير إلى مشكل أعمق: دولة متخمة بنُظُم لم تعُد تنفع، ومسؤولو إدارة لم يعد ولاؤهم للمرفق العمومي.
تونس اليوم لا تواجه فقط أزمة اقتصادية، بل أزمة إدارة عمومية. والمواجهة معها لا تكون بالمنشورات الداخلية أو الاجتماعات البيروقراطية، بل بقرارات جريئة تُعيد الاعتبار إلى الفاعلية والشفافية.
◄ الحكومة أظهرت، من جهتها، أنها بدأت تتحرك في هذا الاتجاه، حيث تمّ إحداث لجنة عليا لتسريع إنجاز المشاريع العمومية، وأُنجز جرد شامل كشف عن وجود 1126 مشروعًا معطّلًا، بعضها مموّل وجاهز
من هنا، يمكن فهم لهجة الرئيس التونسي بوصفها محاولة لكسر الجمود البيروقراطي الذي عطّل مشاريع، وأفرغ خططًا من مضمونها، وساهم في صنع حالة الإحباط العامة.
لن يُسعف التردد في لحظة مثل هذه. الرهان على إصلاح الإدارة ليس شأنًا محليًا فقط، بل مدخل ضروري لاستعادة الثقة الدولية، خاصة في زمن حساس تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية معقدة ومفاوضات مالية دقيقة. حين تبعث تونس برسالة أنها جادّة في المحاسبة، لا تُرسلها فقط إلى الداخل، بل أيضًا إلى شركائها.
وعليه، فخطاب الرئيس سعيد ليس ترفًا لغويًا، بل جزء من استعادة الدور المركزي للدولة كمؤسسة قادرة على إدارة نفسها.. بنفسها، دون أن تُختطف من أطراف تتقن العرقلة وتزدهر في الضباب.
إذا كان الخطاب قاسيًا، فلأنه وُجِّه إلى مرض مزمن. وإذا كان مباشرًا، فلأنه استنفد كل المنعطفات. لقد قرر الرئيس سعيّد أن يُخاطب التوانسة بلا مواربة: الإصلاح لا يتحقق في الندوات، بل بإزاحة من يعيقونه. وهذه ليست قسوة… بل مسؤولية.
المعركة اليوم ليست بين الحكم والمعارضة، بل بين من يؤمن بالدولة كمرفق، ومن يراها مغنمًا. وبين من يزرع في المؤسسة العامة ثقة، ومن يحوّلها إلى مقعد انتظار طويل.
الخطاب في جوهره دعوة للاستفاقة. دعوة لأن تُستعاد هيبة الدولة من خلال الإنجاز، لا من خلال الشعارات. لأن تُحاسَب الإدارة لا على نواياها، بل على نتائجها. لأن يُقال للمواطن: “نراك، ونسمعك، وسنُنجز من أجلك“.
في بلدٍ متعطش للمشاريع، لا يكفي أن نُعلنها، بل يجب أن نُنجزها. وفي بلدٍ أنهكته البيروقراطية، لا يكفي أن نُدينها، بل يجب أن نُغيّرها. وهذه هي الرسالة التي حملها خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد، دون مواربة.
وفي وضع مثل هذا، يحق للدولة أن تتكلم.. وقد فعلت. فهل نُصغي؟