"من طرابلس إلى غزة…. ألف سلام" لوحات حروفية تبعث رسائل للسلام

يبتكر الفنانون الحروفيون العرب اليوم تشكيلات فنية تتجاوز الخطاطين وحدود الحرف العربي المتعارف عليها، سواء من خلال الاشتغال على اللون أو الحركة وطرق هندسات أخرى مبتكرة في الفضاءات الفارغة، إذ يستنطق هؤلاء إمكانيات الحرف العربي الجمالية ويذهبون به إلى مناطق أخرى في تجريبية رمزية خاصة، وهكذا نجد الفنان السوري صالح الهجر.
بمناسبة الاحتفال بطرابلس اللبنانية عاصمة الثقافة العربية نظم مركز العزم الثقافي مؤخرا، برعاية وحضور وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى معرضا للفنان التشكيلي السوري صالح الهجر بعنوان “من طرابلس إلى غزة ألف سلام”، قدم فيه مجموعة من أعماله الفنية الحروفية التي عكست أسلوبه الحسي الإنساني المتنوع، من بينها أكبر لوحة جدارية حروفية بمساحة 15 مترا مربعا وهي من مقتنيات متحف فرحات اللبناني للفن من أجل الإنسانية من مجموعة Farhat Art Museum.
صالح الهجر فنان تشكيلي سوري استطاع أن يحفر اسمه في صفحات الفن والتعبير التشكيلي الحروفي العربي، ويحقق بأسلوبه رؤى طالما استدرجته بالتجريب ليكونها ويفعلها وينطلق عبرها نحو ذاته التي انتصرت للعلامة والعناصر والخامة والحروف والمعاني ومفاهيمها، فكون بها فلسفته وتجرد من خلالها من العوائق التي قد تخلق فكرة التشويه التي تنتاب ناقدي الدمج بين الحداثي المعاصر والتراثي الأصيل في فنون الخط العربي، خاصة وأنه قابل الرفض بالسعي، وحاول بالبحث والتجريب، فتمكن من أن يؤسس له أسلوبا خاصا تميز من حيث التشكيل والحالة اللونية والفضاء المتمازج بين المعنى والحرف والصياغة المكتملة والبناء والاحتواء من خلال الأسطورة والانتماء والحضارة.
إلى غزة.. ألف سلام
في لوحات الهجر يحمل اللون مواقيت تعيد ترميم الزمن بالحركة وبالكثافة والأبعاد التي تفتح منافذ الجدليات البصرية
استطاع الهجر أن يخلق همزة وصل إبداعية وجمالية في أعماله بين التأصل والابتكار أكمل بها شغفه التجريبي ومساره التجريدي ليعبر في اللوحة الحروفية عن اللغة البصرية التي تجاوزت فكرة اللغة اللفظية في اللوحة الخطية تلك اللغة التي قد تضيق حدودها عن الفهم الفني في البحث التشكيلي بوصفها تعتمد الحرف والتشكيل والعلامة والرمزية أكثر من المعنى ليصبح الحرف مستقلا في حضوره وإيقاعه المشكل على تفاصيل الدلالة اللونية، فما يتركز على المعنى يساعد على ابتكار الأسلوب وبالتالي تعمل التمازجات بين كل ذلك ضمن توليفات بصرية تتجاوز البعد الواحد بالبحث عن أكثر من بعد في التعبير.
“لأن الحرف العربي هو رمز من رموز الحركة التعبيرية التشكيلية الحديثة والمعاصرة وكيان جمالي له خصوصياته الحضارية التي تعبر عن الهوية والإنسانية ولأنه المعنى والذاكرة التي تدافع عن الأوطان وتتشبث بالأرض”، هكذا عبر صالح الهجر عن هذا المعرض، مشيرا أيضا إلى أنه يحمل حروفياته ويوجه رسالته وسلامه إلى غزة، وكأنه يعبر عن ذلك الحرف الناقص في اللغة التي بات يسودها الصمت من هول ما يُرى في غزة، وكأنه يبحث عن مكامن النسيان ليعيد ترميم الفكرة وتمريرها بجماليات البقاء والتأصل في المعاني المحدقة في انكسارات الموت والانهيار وفي عمق الغياب والدمار.
يقدم الفنان عمله كخط يملأ الوجدان بعبث السؤال وألم الشكوى من إصرار الروح على التشبث بالسراب في المعنى وحضوره التراثي وانعكاساته الروحانية التي تستدرج العين والذهن والحواس إلى مناطق أبعد في التمكين الفهمي وأعمق في الحس المجازي بلغته البصرية.
اتصال الحواس
حمل الفنان التشكيلي السوري صالح الهجر انطباعاته المُضمخة بالوجد وتفاعلاته الذهنية المُشبعة بالكثافة، ليصنع هوية فنية تشكيلية عربية معاصرة جسدها في هذا المعرض من حيث التمازج الحروفي وهندسة الفراغ بالحرف، استطاع من خلالها أن يتعايش مع ما يحصل في بلاده، ويقدم السلام في مبتغاه الحروفي، ويتكامل مع مواسمها بتعاصفها وتهاطلها وتماطرها ويتشكل في فصولها الحالمة الباحثة عن الهدوء رغم زحمة الأسئلة واشتهاء الراحة المُزهرة بألوانها في لوحاته، رغم كل البؤس الطافح الذي تجرأ على الفراغات في المساحة لتستحيل معه إبداعا يواجه تلك الصراعات التي يتمادى ويتماهى معها بحيرته الحرة وامتداده الشاسع من سورية إلى فلسطين، بتناقض استفهامي أبعد وأعمق في تكويناته المجادلة للواقع بالفن، فلا تشكيل لحرف دون أرض وفضاء ودون اتصال حواسي يدفع بتلك الرؤى إلى مبتغاها الفهمي من أجل تبصير الحواس كلها للمتلقي.
دمج الهجر الشعر والنص النثري وارتكز على التراث الأدبي في أعماله باعتبار أن صيغ الجماليات في الحرف تتأتى من ذلك الرابط الجوهري المتشبث باللغة العربية وعمقها الساحر، كما قدم لوحة من أعماله إلى طرابلس من الشاعر الراحل نزار قباني أرادها رسالة سلام حسية حروفية لونية متمازجة بين الشعر والحروفية والفن التشكيلي من قصيدة قباني لطرابلس “طرابلس.. قارورة طيب ومن ذا الذي يرفض السكنى في قارورة الطيب”.
قدم الهجر أيضا بعضا من حكايا الملاحم الأسطورية بين غلغامش ورثاء أنكيدو ورحلة البحث عن الخلود وحكايات عشتار كأنه يعود بالمتلقي إلى عوالم الغياب والمحو بالصحو موغلا بحرفه في ثنايا التاريخ بتمازجاته العالقة في ذاكرة ذلك الحرف الواثقة؟ التي تستوعب تاريخها من منابت الثبات فيها، فلا هدوء ولا سكون ولا حيرة ولا جدال في عين حرف ترافق زرقة المدى من أجل بلوغ فراديس رؤيا النسيان وكيف لحامل أساطير الخلود أن ينسى.
التجريب والذاكرة
تتشكل لوحات الهجر الحروفية بتجريب ابتكاري يبتعد عن السائد المقروء باللغة الفنية البصرية التي طالما آمن فيها بأن الخط علامة التميز التشكيلي وأن الحرف أصل الحضور الجمالي وأن التجريد احتواء فني وأن اللوحة الحروفية مستقلة بذاتها الحسية الجمالية التي تغري الكيان الفاعل في معاني التمازج.
يحمل الشكل والحرف والخط واللون لصالح الهجر الصيغة التشكيلية في تعاطيها مع المعنى وماورائيات التعبير فالتجريب اللوني هو منفذ للتجريد الذي تعاطى مع الحرف بتوازن الحركة والهندسة لاكتساب روحانية تمكنت من التشكل والتعدد الذي وهبها دلالات بصرية استنطقت الأمكنة والذاكرة والحنين بالسرد البصري من خلال الحرف، لينبش من خلالها قصص الصمود، كل ذلك ضمن توليفات وإيقاعات حملت الميلودي الحروفية لتتبع اللون بصريا نحو عمق الموسيقى بانسيابية لونية لحنية فيها.
فاللون والحركة هي التي تندفع نحو الرؤى البصرية للمتلقي الباحث عن المعنى فتستدرجه نحوها ليندمج معها ومن ثمة يبحث فيها عن قراءاته المجردة وتفاعلاته التجريدية مع الرمز، وبالتالي تنتابه اللغة البصرية فيتماهى معها في الألوان ومداها وتدرجاتها الضوئية وأبعادها.
في لوحات الهجر يحمل اللون مواقيت تعيد ترميم الزمن بالحركة وبالكثافة والأبعاد التي تفتح منافذ الجدليات البصرية التي تحاكي المعاني الكامنة في اللغة البصرية المقصودة، حتى تكون قادرة على استيعاب الواقع وترويض عين المتلقي وإثارتها بتلك الحركة.
وبالتالي يعمد الهجر بالحرف إلى تكوين الرمز وتكوين الحواس معها بحماس ينطلق أبعد في حكمة اللون وشغب التدرج المعلن، وكأنه يوظف من المساحات خيالا يتعانق ويتنافر ويلتحم وينفصل ليعود بتصوراته الجمالية الغارقة في التوازن الذي يفتح للمتلقي مدنا تسكن الذاكرة فتعبُر من تاريخها إلى اللوحة.
يحمل صالح الهجر في توافقاته التعبيرية هويته الخاصة العميقة التي تتفاعل مع ذاكرته المُرتحلة في التراث والتاريخ والواقع ومنافذه وصياغاته النافذة نحو الأمل، فالحرف ليس إسقاطا في اللوحة ولا عنصر زخرف حركي أو هندسي متراكم التوظيفات أو حركة انتشارها لا يحمل معنى موظف الدلالات، بل هو اللوحة ككيان متكامل يستدرج الموهبة نحو الابتكار ويُفعل الفكرة نحو الفهم الذي يتآلف مع كل ما تُبصره الأعين وتقرأه البصائر من ذائقة اللون ومن تفاصيل الاحتكاك بالجمالي في العناصر وتمازجها مع حجم الحروف وحضورها وتواريها واندفاعها وبروزها واختفائها بتلاحم سردي واثق من تماهيه في الفكرة البصرية التي لا تقف عند انتماء واحد للغة بل تصل أبعد بلغتها الفنية والجمالية.
وتجدر الإشارة إلى أن المعرض افتتح في السابع من شهر يونيو الحالي واستمر إلى الخامس عشر من نفس الشهر.

