من طبيب تونس إلى "تيس" الجزائر

رغم التطور الذي بلغته البشرية، لا زالت الشعوذة والعفاريت والهواجس النفسية والذهنية تهيمن على عقول هؤلاء.
الثلاثاء 2024/05/07
متى يعود العقل، ويُحمى الناس من الخرافات؟

لما امتطيت سيارته لكي يوصلني إلى وسط العاصمة تونس، وجدته في حالة من الدهشة والذهول، ومن دون مقدمات بدأ يروي لي حكايته مع صديقه القديم، والذي تحول إلى طبيب، فاعتقدت أن المسألة تتعلق بتغيير تكوين أو مسار دراسي، قبل أن اكتشف من سرديته، أن الأمر يتعلق بعامل نظافة في إحدى ورشات تنظيف السيارات، صار بائع أعشاب طبية، ولأن الألقاب والصفات والمقامات لا معنى لها، فيمكن مجازا عند عامة الناس أن يصبح “طبيبا”.

أردت أن أهدئ من روع سائق التاكسي، ورويت له حكايتي: “لا تستغرب فعندنا في الجزائر تحول فلاح قروي إلى أشهر من نار على علم، وصارت تتدفق عليه الأموال كالمطر، لا لسبب وإنما لأنه يملك تيسا يدر حليبا، وذلك الحليب يعالج الكثير من الأمراض، كالسكري والضغط والسرطان والأعصاب.. وغيرها، وصدق الناس الرواية، وصار لا ينال رشفة حليب التيس إلا صاحب الحظ والقرابة أو الواسطة، أما المقابل فلا يقدر بثمن”.

ومؤخرا ظهر راق كبير في مدينة خنشلة الواقعة شرقي العاصمة الجزائرية، حيث أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلات لطوابير لا تنتهي من الأشخاص ومن المركبات القادمة من مختلف المحافظات والمدن، على أمل الحصول على رقية الشيخ، لعلاج سحر أو عين أو حسد أو زواج معطل أو إفلاس، لكن المصالح العمومية كانت بالمرصاد، وقامت بتوقيفه وإحالته على القضاء.

راقي خنشلة الذي صار يعالج مرتاديه بالعشرات في الدفعة الواحدة، حيث يقرأ لهم شيئا من القرآن ويوزع عليهم قليلا من الماء، والمقابل “أنت وما نويت”، ولأن الناس لها النية كثيرا في مثل هؤلاء في زمن الذكاء الاصطناعي، فإن الشيخ تحول إلى ظاهرة مالية، شأنه

شأن شيخ آخر سبقه وعرف باسم ” بلحمر ” في غرب البلاد، وقتل في ظروف غامضة، بعدما حول الرقية إلى ماء يقدم للمترددين عليه، لأن “الجن” يجري مجرى الدم ولابد من محاربته في الأوعية والأوردة.

هذا حال قطاع كبير من الشارع العربي عموما، حيث لا زالت أزمة العقل تطرح بقوة وبشكل أعقد، فرغم التطور الذي بلغته البشرية في مختلف القطاعات، لا زالت الشعوذة والعفاريت والهواجس النفسية والذهنية تهيمن على هؤلاء، والانتهازيون يرمون بهم في عوالم الغيب والماورائيات والخرافات، لأن مواجهة الحقيقة والواقعية تخون هؤلاء في تفسير وإيجاد حلول معينة لأوضاعهم.

وتفاديا لأي سجال أيديولوجي، ما دامت الظاهرة وجدت دواعيها ومبرراتها وشرعيتها في الموروث الديني، فلا بأس أن يحال هؤلاء، على شيخ آخر، ذكر أنه قضى 20 عاما في الولايات المتحدة الأميركية، ولم يأته أي أحد طيلة تلك المدة طالبا منه رقيته، وبرر ذلك لجمهوره، لأن “الناس هناك ليس لهم الوقت للوقوع في الأفكار السلبية”.

وخاطبهم بالقول: “العانس والبطال والفقير والمظلوم وساكن الصفيح.. لا يمكن علاجهم لا بالرقية ولا بالعقاقير، حتى ولو قرأت عليهم القرآن كاملا أو أشربتهم دلاء من الماء المرقى.. الحل في الزواج وفي العمل وفي السكن وفي العدل وفي الخدمات المختلفة..”، عند ذاك فقط يعود العقل، ويُحمى الناس من الخرافات.

18