من صناعة الوعي إلى مسح الزجاج

قصدت أحد الأكشاك بغرض اقتناء صحيفة ورقية، فكان المنظر منفرا؛ ففي واجهته تجتمع كل الأغراض غير المتناسقة، ولما سألت عن العنوان، بدا لي صاحبه بعيدا كل البعد عن عالم الصحافة الورقية، ونشاط بيع الصحف بالنسبة إليه هو حتمية إدارية تفرضها شرعية النشاط أمام أعوان الرقابة والتفتيش والمطابقة.. وغيرها.
بادرت بنفسي للبحث عنه وسط ركام من الورق المتشابه، ويبدو أن صاحب الكشك أراد التخفيف عني، فسألني بجد: ماذا تفعل به؟ هل تمسح به الزجاج؟! وهنا أحسست بزلزال يهز أركاني، ليس لأن العنوان الصحفي المعني بهذا المستوى من الهزال، وأعرف جدية ملاكه ومحرريه في إنتاج صحيفة محترمة.
تملكني شعور بالضحك وآخر بالبكاء في آن واحد، حزنا على هذه الحرفة التي عبثت بها الرداءة عندنا قبل أن يهددها الزمن والتكنولوجيا، وتحسرت على زمن غير بعيد كان فيه قارئ الصحيفة يعتبر إنسانا واعيا ومثقفا في نظر آبائنا وأجدادنا، أما الكاتب فيها فهو إنسان من عالم آخر.
يعلم الجميع أزمة الصحافة المكتوبة، وتراجع المقروئية الورقية، وتأثير التكنولوجيات الحديثة في سرقة اهتمام ووقت القارئ، لكن ليس إلى درجة تحويلها إلى مادة لمسح الزجاج، فاحتراما للإنسان مهما كان مستواه وحرفته، لا يستوجب العبث بكل الجهد اليومي في إنتاج هذه المادة، ثم ينتهي بها المطاف إلى ورشات الرسكلة وتوضيب المواد الاستهلاكية ومسح الزجاج.
الأمَرّ من كل ذلك أن المسألة ليست وليدة فعل أو سلوك معزول من طرف هذا التاجر أو ذاك، بل هو انطباع سائد لدى الجميع من المالك والموظف والطابع والموزع والبائع، بأن هذا المنتوج ليس لصناعة الديمقراطية والوعي والرأي العام، بل لمسح الزجاج..!، ومع ذلك الكل صامتون وكأن الطير حط على رؤوسهم.
المهتمون في العالم، يبحثون في إيجاد آليات الصمود والمقاومة من أجل الحفاظ على هذا الإرث الإعلامي والمعرفي، ويعكفون على تطوير المنتوج وشحنه بإمكانيات المنافسة، لكن عندنا في الجزائر يجمع الكل على المسارعة من أجل انقراض الصحافة المكتوبة من الواقع ومن المخيال، فبعدما سقطت من الاهتمام اليومي، يجري الاستخفاف بها وتحويلها الى مادة لمسح الزجاج.
أزمة الصحف الجزائرية، زيادة على الأزمة العالمية المتعارف عليها، تمزقها ممارسات ذاتية زادت الطين بلة، فلا مصداقية ولا تأثير ولا توجيه أو صناعة للرأي العام، ولا مردودية ولا نجاح اقتصاديّا، فهي من أقصاها إلى أقصاها تعيش على الريع العمومي، لكن أن تنتهي أطنان الورق يوميا الى وجهة أخرى كمسح الزجاج، فذلك فساد ممنهج ومقنن.
العديد من الحرف انقرضت بسبب تطور الإنسان، ولا ضير في أن تنقرض الصحافة الورقية، لكن ما يحزن أوفياء المهنة ليس التسليم بقانون الطبيعة وإنما بالرداءة التي زحفت على مهنة وعلى منتوج كان لزمن ليس بعيدا يصنع وعي ورأي الشارع.
نفس الدور لا يزال قائما وتطور كثيرا، فأن نقرأ صحفنا على الورق أو على الهاتف أو على اللوحات والحواسيب الأمر ذاته، لكن مبعث الخوف الذي ينتاب الجميع هو أن الرداءة التي حطمت الصحف الورقية قبل الأوان في الجزائر يمكن أن تمتد إلى الوسائل الأخرى، فنحن شعب لا ينتج التكنولوجيا ولا يستفيد منها، بل يلعب ويتسلى بها فقط.