من الرياض إلى واشنطن: أي صورة يقدمها قيس سعيد عن حكمه

حضور الرئيس التونسي قيس سعيد القمة العربية - الصينية، واستعداده للذهاب إلى واشنطن للمشاركة في القمة الأميركية – الأفريقية عنصران مهمان لوضع تونس على خارطة الشراكات الإقليمية والدولية. لكن الأمر مشروط بخطاب الرئيس سعيد وبراغماتيته.
كسر الرئيس التونسي قيس سعيد رهاب حضور القمم الجماعية التي تجعله يقابل شخصيات مختلفة دون أن يكون مركز الاهتمام فيها، وذلك بمشاركته في القمة العربية والقمة الفرنكوفونية ثم القمة العربية – الصينية، وخلال يومين سيكون في واشنطن لحضور القمة الأميركية - الأفريقية.
وكان قد غاب في السابق عن مناسبات جماعية أخرى آخرها قمة المناخ في مصر التي كانت ستوفر له فرصة نادرة لمقابلة رؤساء دول وحكومات مهمّين والحصول على تعهدات دعم لتونس في مجال تحديات المناخ وندرة المياه.
وينظر التونسيون إلى خروج رئيسهم في هذه المناسبات الدولية باهتمام كونها البوابة الباقية من أجل جلب الدعم الذي سيساعدهم على مواجهة الوضع الصعب الذي يعيشونه. لكن كيف سيتواصل قيس سعيد في خرجاته هذه، وخاصة تلك التي سيذهب فيها إلى الولايات المتحدة التي بدأت تغير من تقييمها لنظام حكمه بعد أن ظلت لأشهر تطلق الإشارة ونقيضها.
هل سيستمر الرئيس سعيد في إطلاق التصريحات العامة التي تتحدث عن رغبته في بناء نظام عالمي جديد مع أن المناسبات مهمة وفرصة قد لا تتكرر له للحصول على دعم من دول مهمة مثل دول الخليج والصين (بعد حضوره القمة العربية - الصينية ولقاء قادة وزعماء مؤثرين) وخاصة زيارته إلى واشنطن؟
زيارة واشنطن ستكون فرصة حقيقية لقيس سعيد لكسب إدارة بايدن، ودفعها إلى الكف عن الهرسلة التي كانت تعكسها تصريحات المسؤولين الأميركيين حين يزورون تونس
في القمة العربية - الصينية بدا الرئيس التونسي وكأنه يقدم نفسه منقذا للبشرية في صراعها مع العولمة ويعتقد أن الدول العربية والصين يمكن إذا تحالفتا أن تغيرا الواقع، وتحدث عن “بناء عالم جديد”، وأن “شعوبنا دفعت ثمن ما يُتعارف عليه بالعولمة التي لم تغيّر الواقع في العالم”.
وقال قيس سعيّد في كلمته أمام القمة “لا تنمية دون سلام، ولا سلام للجميع في غياب تنمية عادلة، ولا نريد بناء جدران جديدة بل نعمل من أجل أسس جديدة في بناء جديد ينهي التوزيع غير العادل للثروات”.
وتمنى على القمة أن “تُوفّق في شق طريق جديدة وبمفاهيم جديدة تصنعها البلدان العربية والصين معا انطلاقا من القيم والإرادة نفسها”.
كان يمكن لهذا الخطاب الحالم أن يصدر عن كاتب أو مفكر في ندوة فكرية أو في كتاب، أو في مقال بصحيفة. وقد يكتبه الرئيس سعيد نفسه. لكن لا يلقى أمام القمة لأسباب منها أن القمم تذهب مباشرة إلى معالجة الأزمة من خلال أفكار عملية واضحة، وأن القادة الحاضرين براغماتيون يريدون الوضوح والإيجاز.
لكن الأهم، هنا، هو ماذا يريد الرئيس سعيد من حضور القمة وكلمته فيها؟ هل تقديم نفسه كزعيم مختلف يحلم بعالم جديد أقرب إلى العالم الجماهيري، أم كرئيس دولة تعيش ظروفا صعبة وتجد في قمة الرياض العربية – الصينية فرصة لشرح الظروف واقتراح مشاريع مشتركة، والتعبير عن رغبة واضحة في الحصول على الدعم وتقديم الضمانات التي تشجع المانحين والمستثمرين على القدوم إلى تونس؟
المرحلة مختلفة، ولا تحتاج إلى مكابرة. الخليجيون تغيروا وبات اهتمامهم منصبا على بناء شراكات كبيرة. يريدون استثمار فورة النفط لإجبار الغرب على مراجعة مقاربة الشراكة التقليدية معهم، والخروج بالعلاقة من البعد الفوقي الاستعلائي إلى التكافؤ والندية، وخاصة القدرة على تنويع الشركاء، وربط الاستثمارات بمصالحهم وأمنهم القومي.
ولا يترك هذا التوجه الإستراتيجي للخليجيين فرصة التفكير في الشراكات الصغيرة. كما أنهم حريصون على تبديد الصورة القديمة التي تقدمهم في صورة من ينفق بسخاء دون هدف. ولهذا كانت القمة مهمة في لفت النظر إلى واقع تونس.
كانت فرصة للفت نظر العالم القريب منا، خاصة الخليجيين، إلى أوضاعنا، وفهم السر الذي يجعل دولا شقيقة تدير لنا الظهر وتكتفي في كل مناسبة بإغراقنا بالوعود فيما تدعم دولا أخرى تعيش نفس وضعنا مثل مصر، مع أن النظام في تونس سار على نفس خط النظام المصري، وتبنى شعاراته، فلماذا يحظى هذا بالدعم ويقابل الآخر بالتجاهل؟
وستأتي زيارة الرئيس سعيد إلى واشنطن المقررة ليومي الاثنين والثلاثاء بهدف حضور القمة الأميركية – الأفريقية لتختبر مدى قدرته على تغيير صورة واشنطن تجاه حكمه وتجاهه كشخص، خاصة أنها ظلت لأشهر واقفة في منتصف الطريق، لا هي عارضت إجراءاته في 25 يوليو 2021، ولا هي دعمته بشكل واضح.
وبعيدا عن الشعارات التقليدية من الجانب الأميركي بشأن دعم الديمقراطية، ومن جانب قيس سعيد حول “استقلالية القرار الوطني” ورفض “التدخل الخارجي”، فإن العلاقة مع واشنطن مهمة لأي نظام، لبقائه واستقراره، وخاصة لفتح الطريق أمامه للحصول على التمويل من الصناديق المالية الدولية. وهي صناديق أميركية قلبا وقالبا حتى لو كان المال متعدد الجنسيات.
كيف سيكون حضور قيس سعيد في واشنطن، في لقاءاته الثنائية وخاصة مع الرئيس بايدن، وكلمته داخل القمة؟
هل سيذهب إلى كشف تاريخ “التعاون” الأميركي - الأفريقي؟
هل سيثير قضية الاعتذار الرمزي للأفارقة من بوابة أنه زعيم مختلف وتتسم خطاباته بالصدمة والمصارحة والعمق؟
أسئلة إنكارية مهمة لإظهار أن مهمة الرئيس التونسي في واشنطن ليست التأسيس لإعادة كتابة التاريخ في بلد “نهاية التاريخ”، أو إلقاء خطاب مناقض للعولمة في بيت للعولمة، والحث على أنسنة للعولمة في دولة إستراتيجياتها كلها تتحرك ضمن العولمة بما تعنيه من نشر النموذج الأميركي عالميا، نموذجا للقوة والهيمنة. والعولمة ليست نصا في كتاب أو مقالة لنهاجمها في قلب واشنطن، فهي روح الأميركيين وقبضتهم التي يتحكمون بواسطتها في العالم.
في القمة العربية - الصينية بدا الرئيس التونسي وكأنه يقدم نفسه منقذا للبشرية في صراعها مع العولمة ويعتقد أن الدول العربية والصين يمكن إذا تحالفتا أن تغيرا الواقع
ستكون زيارة واشنطن فرصة حقيقية لقيس سعيد لكسب إدارة بايدن، ودفعها إلى الكف عن الهرسلة التي كانت تعكسها تصريحات المسؤولين الأميركيين حين يزورون تونس. مع العلم أن واشنطن لا تعنيها الديمقراطية من حكم قيس سعيد ولا من حكم الذين سبقوه منذ 2011، ما يعنيها هو مدى اقتراب الديمقراطية ونقيضها من المصالح الأميركية، وهذا ما يفسر تخلي واشنطن عن حكم الإسلاميين وحلفائهم من تشظيات حزب “نداء تونس” بالرغم من أنه بلغ بالديمقراطية إلى أقصاها وحولها من أداة لإدارة الحكم إلى فوضى.
مشكلة أميركا مع قيس سعيد هي أنها لم تتوصل إلى يقين بشأن قدرته على إدارة الأمور بالشكل الذي يجعل حكمه قريبا منها، خاصة في ظل التصريحات التي كان يطلقها بشأن السيادة الوطنية وحساسية الدور الخارجي، حتى وإن كان الهدف منها داخليا الدفاع عن التغيير الذي أحدثه وإظهار تمايزه عن الطبقة التي حكمت قبله وسعت للالتفاف عليه وسحب صلاحياته.
وخلال زيارته الأخيرة إلى تونس ولقائه قيس سعيد، جدد منسّق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك التأكيد على استمرار دعم الولايات المتحدة لتحسين مناخ الاستثمار في تونس، و”المساهمة في مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي، وعلى تواصل دعمها لتعزيز برنامج شبكة الأمان الاجتماعي في تونس، والإصلاحات الأساسية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي فيها وزيادة الفرص الاقتصادية المتاحة للشعب التونسي”.
وواضح من هذا الكلام أن واشنطن مستعدة لدعم تونس اقتصاديا، وخاصة المساعدة في التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، وهي الورقة القوية بيدها. ويبقى فقط كيف سيظهر الرئيس سعيد رغبته في بناء علاقة وثيقة معها، وإظهار وجهه البراغماتي الذي يضع على أجندته جلب الدعم ووعود الاستثمار قبل أي خطاب حالم يريد إعادة كتابة التاريخ أو أنسنة العولمة.
ومن المهم أن يستمع قيس سعيد لواشنطن في موضوع الديمقراطية، ويقدم صورة عن الانتقال الذي يعمل على تنفيذه، وخاصة تركيبة البرلمان القادم ومدى قدرته على أن يكون مؤسسة تشريعية ذات وزن يمكن الاعتماد عليها لتوقيع اتفاقيات ملزمة لتونس بدل التوقيع الشخصي للرئيس.