من الذي تغير، قيس سعيد أم الإعلام؟

ما الذي استجد بين مؤسستي الرئاسة والإعلام حتى باتتا تتبادلان الاتهامات بالتخاذل والتقصير، كل طرف يأخذ على الآخر تفضيله لـ"الأجنبي الغريب" بدل "المحلي القريب".
الجمعة 2022/01/28
علاقة دائمة التوتر

التونسيون يختلفون في كل شيء، ويعلنون ذلك في وسائل الإعلام دون خوف أو مواربة، لكنهم يتفقون على شيء واحد، وهو أن حرية التعبير، حتى عن هذا الاختلاف نفسه، غنيمتهم الوحيدة ما بعد الرابع عشر من يناير 2011.

الرئيس قيس سعيد يعلم في قرارة نفسه أن الإعلام المحلي بشقيه الخاص والعمومي كان قد سلط الضوء عليه كرجل قانون يدلي بدلوه في المسائل الدستورية التي تهم الشأن السياسي، وكذلك في ما يشبه المساندة أثناء حملته في انتخابات الرئاسة لسنة 2019.. فإلى أي حد سيبقى معولا عليه؟

كان ذلك بمثابة “التحيز الإيجابي” من طرف الإعلام التونسي إزاء رجل يبدو صادق النوايا، أعزلا من المال السياسي وقريبا من هموم الطبقات الفقيرة، ولكن.. ماذا حصل لسعيد بعد دخوله قصر قرطاج، وهل غير الكرسي الرئاسي من عفوية وبساطة هذا الملقب بابن الشعب أم أن الإعلام هو الذي غيّر من نظرته وخطابه، وأصبح شديد الحيطة والتوجس من كل من يجلس على منبر ويخاطب الناس من خلف ميكروفون؟

من الذي تغير، سعيّد أم الإعلام؟ وما الذي استجد بين مؤسستي الرئاسة والإعلام حتى باتتا تتبادلان الاتهامات بالتخاذل والتقصير بل أصبح كل طرف يلوم الآخر ويأخذ عليه تفضيله لـ”الأجنبي الغريب” بدل “المحلي القريب”.. وهو تجاذب خطير ينذر بالقطيعة وسوء العواقب وسط وضع هش على المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية.

الإعلام التونسي يقول من جهته، إن سعيد، ومنذ دخوله قصر قرطاج أغلق باب التعامل مع السلطة الرابعة، باستثناء بعض الحوارات مع وسائل إعلام عربية وغربية، واستاء صحافيون كثيرون من هذا التجاهل المتعمد للمؤسسات الإعلامية التونسية بفرعيها العمومي والخصوصي.

وانتقد إعلاميون هذا التوجه الانتقائي الذي يعد نوعا من الاستعلاء وشكلا من أشكال الاستخفاف بالسلطة الرابعة في نظام ديمقراطي يجدر به الفصل بين السلطات، متسائلين إن كنا قد أصبحنا نلاحق المعلومة ونستاقها من وسائل إعلام أجنبية، مذكرين بأن زمن الوصاية على الإعلام قد ولى إلى غير رجعة.

وفي هذا الصدد، تعد صفحة الرئاسة على فيسبوك وما تنشره من بلاغات حول نشاط رئيس الجمهورية، المصدر الوحيد الرسمي والموثوق، دون سواه، حتى يتمكن من خلاله الصحافيون استقاء معلوماتهم، بعد استقالة مكلفين بالإعلام والاتصال من قصر قرطاج.

ومن جهته، قال الرئيس التونسي إثر لقاء جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان إن بعض وسائل الإعلام تتعمد في نشراتها الإخبارية تشويه الحقائق، مضيفا أنهم “يتحدثون عن بعض المسائل التافهة ثم بعد ذلك يتحدثون عن جملة من القضايا الأساسية والجوهرية”.

وتابع سعيّد في غضب شديد “في تونس الحرية يعتبرونها عملية ثلب وشتم وقذف عن طريق وسائل الإعلام… هؤلاء تقف وراءهم لوبيات مالية”.

كلمة مثل هذه من شأنها أن تثير غضب الصحافيين بطبيعة الحال، ذلك أنها جاءت في صيغة تعميمية وضعت الجميع في سلة واحدة، وحكمت عليهم بالارتهان لبارونات المال الفاسد والأجندات السياسية المشبوهة لمجرد انتقاداتهم للإجراءات الرئاسية التي بدت تهطل على التونسيين دون استشارات.

وعلى ذكر الاستشارات، ابتكر الرئيس التونسي ما بات يعرف بـ”الاستشارة الإلكترونية” كوسيلة لإشراك المواطنين توجهات الدولة عبر الاقتراحات المرسلة لهيئة عليا، و”مجهولة الأسماء” مما يخشى تحويلها إلى بديل ديمقراطي يكرس نوعا من الشعبوية ويعطل المؤسسات المعنية.

وفي هذا السياق سخر منها صحافيون بشكل أثار غضب الرئيس حين تطرق إلى كيفية تناول الإعلام موضوع الاستشارة الإلكترونية، قائلا “كل يوم يضعون على أعمدة الصحف الاستفتاء الإلكتروني بين معقفين، لو وضعوا أنفسهم بين المعقفين لكان أفضل”، مضيفا أن هؤلاء يعتبرون الحرية حرية السب والشتم وتطويع وسائل الإعلام من قِبل مجموعة من الأشخاص تعمل ليلا لتشكيل أجندة إعلامية يتناولونها نهار اليوم التالي.

ويصر سعيد على أن هؤلاء يمثلون النظام الخفي الذي لا يزال يحكم تونس، في إشارة إلى حركة النهضة وحلفائها في الداخل والخارج، بالإضافة إلى رموز النظام السابق.. هذا على سبيل التخمين، ذلك أن مشكلة الإعلام مع سعيد تتمثل في كونه لا يسمي خصومه السياسيين بشكل صريح.

كل هذا تسبب في تفاقم الاستياء من مؤسسة الرئاسة عبرت عنه نقابة الصحافيين في أكثر من بيان رسمي، وعلى لسان نقيبها، عن انشغالها بـ”تواصل سياسة تعطيل النفاذ إلى المعلومة في أغلب المؤسسات الحكومية وفي رئاسة الجمهورية”، وقالت إنه ضرب واضح لحق دستوري ولحاق المواطن بالمعلومة الصحيحة.

المشكلة أن هذا الجدل المستمر بين الصحافيين ومؤسسة الرئاسة لم يعد “نقيا” من حيث الحجج والبراهين المنطقية التي يسمح بها دستور البلاد بل تدخلت فيها أطراف بمثابة الجيوب الخفية في مؤسسات إعلامية كالقناة الوطنية وغيرها، والتي تحاول لعب دور تعتيمي على النشاط الرئاسي عبر أسماء مندسة كان قد زرعها الإسلاميون ومكنوها من النفوذ أثناء سنوات حكمهم.

 وفي هذا الإطار، يبدو سعيّد محقا حين اتهم وسائل الإعلام بممارسة “التعتيم الإعلامي” على نشاطه الرئاسي، مضيفا “يتكلمون في شريط الأنباء الحكومية عن جلود الأضاحي يوم العيد، قبل أن يتحدثوا عن مكالماتي مع رؤساء الدول، وسيأتي الوقت الذي يعرف فيه التونسيون كثيرا من الجرائم والحقائق، وسيتحمل هؤلاء مسؤوليتهم أمام القانون”.

هي معركة قد تكون “صحية” ضمن نظام ديمقراطي في بلد يقظ مثل تونس رغم جميع أزماته، لكن الإسلاميين ينفخون في الكير ويشعلون الحرائق في كل الاتجاهات بغية إرباك الدولة وجعلها تترنح عبر افتعال المزيد من الخصومات داخل مؤسسات المجتمع، وخصوصا النقابات المهنية مستغلين صعوبة الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

16