من الإمارات إلى تونس.. ليست الحرب وحدها ما يستحق الإدانة

مسرحيات عربية في مسقط تواجه تفكك المجتمعات وصراعاتها.
الخميس 2025/01/16
شخصيات من أعماق المجتمعات (مسرحية "لبخارة")

أكدت عروض الدورة الـ15 من مهرجان المسرح العربي في مسقط الاشتباك الكبير الذي يعرفه المسرح العربي مع قضايا شعوبه، إذ حاولت أغلب الأعمال الدخول إلى عمق الصراعات التي تنخر المجتمعات، مقدمة رؤى مغايرة لفهم مآلات هذه الصراعات وبشاعتها أحيانا، لتطرح في النهاية الحقائق عارية تاركة المجال لإعادة التفكير فيها.

إن لم تكن الحرب فهناك ما هو أمر وأسوأ في نتائجه منها، ألا وهو تسلط الأثرياء المتنفذين، والصراعات الاجتماعية، وثقل ذكريات الماضي بحلوها ومرها مع فقد الأحبة. كل ذلك جسدته عروض “كيف نسامحنا” الإماراتي و”عد عكسي” السوري، و”بين قلبين” القطري”، و”البخارة” التونسي و”ماكبث المصنع” المصري، وهي عروض قدمها مهرجان المسرح العربي في دورته الـ15 بالعاصمة العمانية مسقط.

تركيب المشاهد

بعض العروض تميزت برؤى إسقاطية تعبر عن الحياة والموت والزمن وجور السلطة في المجتمعات العربية

يشكل سؤال: لماذا نقتل الأمهات؟ محور العرض الإماراتي “كيف نسامحنا”، الذي أنتجته فرقة مسرح الشارقة الوطني، سينوغرافيا وإخراج محمد العامري، نص إسماعيل عبدالله، موسيقى إبراهيم الأميري، فما تطرحه لم يستهدف فقط معاناة المهمشين الذين يقطنون أسفل السلطة على اختلاف مستوياتها، فاستهدف رجال الدين الفسدة المضللين الذين يوظفون القرآن والسنة لأغراضهم الدنيئة وفي مقدمتها رمي الشرفاء بالباطل، وكشف القمع واللصوصية اللذين يعتاش عليهما علية القوم من تجّار وأصحاب نفوذ وأثرياء وتابعيهم. كما طرح العرض أهمية مقاومة كل هذا السوس الذي ينخر في أجساد الأمم والثورة عليه، بل ذهب لاستهداف نداء عاجل للحفاظ على كيان الأمة/ الأمهات؟

العرض يمثل صرخة قوية للحفاظ على الأمة؛ كل الأمة. وقد انطلق من تطويق حبل المشنقة حول رقبة إحدى الأمهات انتظارا لقاضي المحكمة العليا لكي يأذن بتنفيذ حكم الإعدام بحقها، هذه الأم التي تعيش في سرداب بناية شاهقة، يسكن طوابقها العليا صفوة المجتمع وعلية القوم من المسؤولين والمضاربين في البورصة والتجار وأثرياء المجتمع، متهمة بالفسق والفجور والقتل، وفي الانتظار يبلغ الحضور من رجالات السلطة أنه مات بحادث سير، وأنه خلال ساعة ليس إلا سيتم اختيار القاضي الجديد الذي سيأتي فورا. في هذه الساعة يقرر عامل النظافة أن يكون شاهدا على العصر ليكشف حقيقة المرأة، مؤكدا أن الأسئلة الكبرى هي تلك الأسئلة التي نعجز عن الوصول لإجاباتها.

ومن خلال شهادته، نبدأ في التعرف على الفساد المستشري في جسد المجتمع وبين علية القوم المسؤولين تحديدا، بدءا بإمام الجامع الكبير الذي يمارس كل أنواع الفحش والعربدة والرذيلة واللصوصية، ولا يتورع عن استخدام الدين في تخريج ما يرتكبه، لندخل بعد ذلك على غرفة للمقامرة يتجمع فيها المسؤولون، ينسحب الجميع بعد خسارتهم من أمام مقامر محترف، ويبقى واحد منهم هو أكثر سلطة ومالا راجيا المقامر المحترف أن يسمح له بالفوز مرة، كونه قد أفلس، لكن هذا المقامر يطالبه باللعب على طائرته الخاصة، ثم زوجته، فلا يجد مناصا من الموافقة، وهنا يساومه المقامر مشترطا في مقابل أن يرد إليه كل أمواله، أن يمكنه من المرأة راعية الأرامل واليتامى والدفاع عن الحرية.

صراعات تبدأ في العتمة بين الجدران (مسرحية «كيف نسامحنا»)
صراعات تبدأ في العتمة بين الجدران (مسرحية "كيف نسامحنا")

تتعرض المرأة إلى محاولة هتك عرضها، فيأتي أحد أبنائها شاهرا بندقيته في وجه كبار المسؤولين، لكن الشرطة تعاجله فترديه قتيلا، وهنا تنتفض المرأة داعية الناس للثورة والقصاص من الفسدة والقتلة والظالمين، وتحدث الاشتباكات مع الشرطة، ويتم القبض عليها، وهناك حيث المسؤول الكبير يتم انتهاك حقوقها فتقاوم صارخة قفوا واستعيدوني فقد تم خطفي، لكن لا مجيب، تقاوم حتى تتمكن من قتل من يعتدي عليها، وهذا يدخل ضمن الاتهامات السابقة اتهامها بالقتل، وفيما يتلو القاضي الجديد الحكم بالإعدام تحدث الثورة التي تحطم كل شيء.

يخرج بعد ذلك شاهد العصر ليطرح التساؤل: لماذا تموت الأمهات؟ لماذا تموت الأمة؟ مؤكدا أن الأمة ستعيش ألف ألف سنة ولن تموت أبدا. مطالبا: ارجموا بحجارتكم.. ارجموا بحجارتكم.. ارجموا بحجارتكم. فيما الأم/ الأمة تقول: أنا باقية إلى ما شئت أحيا وأقاتل.

المتابعة الدقيقة للعرض تكشف أن المخرج لجأ لما يمكن أن نطلق عليه المشاهد، فبعد مشهد الإعدام الذي توسط خشبة المسرح، انقسمت الخشبة إلى أربع تكوينات، غرفتان يتوسطهما مكان يمكن أن يكون البدرون الذي تقطن فيه المرأة مع الأرامل واليتامى، وفي الخلفية الشارع، وقد تنقل المخرج بين المكونات الأربعة بفضل الإضاءة، ففي إحدى الغرفتين كانت جلسة التآمر على المرأة والسعي إلى كسر إرادتها وكبريائها، وجلسة القمار التي اشترط فيها المقامر المحترف أحد مسؤولي السلطة أن يترك له طائرته الخاصة ثم زوجته ويرد إليه ما خسره من أموال مقابل أن يمكنه من المرأة.

وفي الغرفة المقابلة كان سكر إمام الجامع ومساومة أحدهم له لكي يمكنه من القضاء على المرأة، وأيضا كان تعذيب المرأة ومحاولة هتك عرضها الأمر الذي دفعها لقتل المعتدي. أما البدرون ـ قبو العمارة ـ فكان مسكن المرأة الذي تم تهديها فيه وأيضا تم قتل أحد أبنائها اليتامى، وأخيرا الشارع الذي ضج بالثورة والانتقام من الظالمين.

هذه المكونات صحبتها عناصر السينوغرافيا من إضاءة وديكور وملابس وموسيقى، فضلا عن الجمع بين اللغتين الفصحى والعامية والذي أضفى مصداقية على الحوار بين شخصيات العرض.

لقد عزفت الخشبة القصة بتمكن تجلى بالإضافة لما سبق في أداء الممثلين على مستوى الصوت والحركة الجسدية والطاقات التعبيرية للوجوه. وبالنهاية تشكلت أمامنا رسالة تطالب بالقبض على روح الحرية وعدم التفريط في الحق بنيلها حفاظا على الأمهات/ الأمة.

اللغة والأداء

مشاهد رمزية تثير التساؤل (مسرحية «عد عكسي»)
مشاهد رمزية تثير التساؤل (مسرحية "عد عكسي")

صعوبة تلقي اللهجة التونسية فضلا عن اللغة الفرنسية في العرض التونسي “البخارة” تأليف صادق الطرابلسي وإلياس الرابحي، وإخراج صادق الطرابلسي، لم تمنع من الإحساس بأننا أمام عائلة تونسية تكافح ضد الموت في الحياة اليومية، تعيش في فوضى تامة داخل مسكنها المتواضع داخل حي يعاني من التلوث البيئي والعشوائية والإقصاء وغياب تطبيق القانون، فالحي يرزح في قلبه مصنع يشكل بخاره مادة للموت، غبار وهواء مسمومان يؤثران على صحة سكان الحي، ويتجلى ذلك واضحا في الأمراض التي تعاني منها العائلة.

يبدأ العرض بدخان كثيف يملأ الفضاء يتصاعد من مصنع، خمسة أبواب على جدار متحرك، مروحة سقف تدور بلا توقف وقطعة أثاث منزلية وحيدة؛ كنبة مكسوة بغطاء أصفر، وتصلح لجلوس شخصين، تتحرك على الخشبة بسهولة من خلال دفعها في أي من جهات الفضاء المسرحي، تستخدم في تجليات مختلفة من علاقة حميمة ولقاء حب بين الزوجين، وسريرا للأب المريض وأيضا سلطة لذلك الفرنسي الذي لا يبالي بالمعاناة التي يفرضها الهواء والغبار المسمومان.

هذه العائلة هي جزء من منطقة تتردد ضوضاء حركتها وأصواتها في الخلفية كاشفة أن جميع من يقطنها يعانون من حالة اختناق، اختناق يؤثر على أزماتهم الاجتماعية والإنسانية، كما يؤثر على الصحة الجسدية والنفسية لسكانها.

عوض أداء الممثلين في العرض بخفة أدائهم الحركي وطاقاتهم التعبيرية والجسدية أمر اللهجة غير المفهومة واللغة الفرنسية، حتى أصبح هذا الأداء أحد أبرز عناصر العرض، حيث كشف عمق الأزمة التي تعيشها هذه العائلة، خاصة حالة الزوجة التي تبحث عن الحرية والفرح وحميمية علاقتها مع زوجها المطارد بأوجاع الأب وثقل الفقر والمرض، إنها تحاول الإنجاب لكن سموم هواء المصنع يجهضها أكثر من مرة.

جاء عرض “بين قلبين” القطري لفرقة مشيرب للإنتاج الفني بقطر، تأليف طالب الدوس إخراج محمد يوسف الملا، أيضا استثنائيا في أدائه تمثيلا وإخراجا وسينوغرافيا، وذلك من حيث تناولته قضايا استكشافه العلاقات الإنسانية وصراعاتها المختلفة. عاكسا التحديات التي يواجهها الأفراد في حياتهم اليومية، خصوصًا في ظل الضغوط المجتمعية والتغيرات التي يفرضها العصر الحديث. ومما يجعل أحداثه تلقي بظلال قاتمة على الوجود الإنساني بأسلوب عميق، فهي تحكي عن الصراع بين العقل والقلب، وبين العاطفة والمنطق، في قالب يدمج بين الواقعية والرؤية الفنية الإبداعية.

في رؤيته الإخراجية استطاع المخرج محمد الملا، أن يُبرز النص بأسلوب بصري وجمالي راق، معتمدا على تكامل الأداء التمثيلي مع الإضاءة والموسيقى والديكور. حيث لعبت الموسيقى الحية والإضاءة دورا مهما في تجلي الحالة النفسية للشخصيات والتحولات الدرامية للنص.

وقد أكد المؤلف طالب الدوسري على أن العرض يشارك في المهرجان العربي للمسرح ممثلا لقطر، وهو يمزج العرض بين التقاليد المسرحية المحلية والحداثة، ومن ثم يتيح الفرصة لتسليط الضوء على الحراك المسرحي القطري. والمنافسة مع أعمال عربية مميزة تعزز مكانة المسرحية وتبرز احترافية فريق العمل. كما تعزيز التعاون الثقافي والفني بين قطر والدول العربية المشاركة في المهرجان.

رؤى وإسقاطات

العروض تميزت بنقد لاذع لما يشوب المجتمعات من خلل تكويني وخلل تسلط وفساد يؤدي إلى تفككها
العروض تميزت بنقد لاذع لما يشوب المجتمعات من خلل تكويني وخلل تسلط وفساد يؤدي إلى تفككها

جاء العرض السوري “عد عكسي” لفرقة المسرح القومي السوري وتأليف وإخراج موسيقي سامر الفقير، تأليف ودمى وإخراج العرض هنادة الصباغ، مختلفا عن كافة العرض التي قدمها مهرجان المسرح العربي في دورته الـ15 بمسقط، فأبطاله هنا عرائس/ دمى، مؤثرات صوتية وتشكيلات سينوغرافية تنسج ـ دون لغة ـ ما يحيط بأحداث الحبكة الدرامية للعرض في مختلف مراحلها.

قبل انطلاق العرض نرى ساعة رملية معلقة فوف فضاء خشبة المسرح معلنة نفاذ الوقت. ثم ينطلق العرض بإطلالة خريفية تتساقط فيها أوراق الأشجار التي تهتز بفعل تقلبات الجو الخريفي، لنرى الدمية الرئيسية وهي لشخصية بلغت من العمر سن الشيخوخة، تجاعيد وجه وبياض شعر وعكاز يتكئ عليه.

هكذا يتجلى الجو الخريفي، تتساقط أوراق الأشجار، ليقول إن الكهل أيقن أن ساعته قد قربت فاقترب منها بتسليم منه، فالموت قرار أيضا، مودعا كلبه العجوز المرافق له، لصعوده لغرفته متلمسا أوراقه متأملا صورة زوجته، هذه الصورة التي تفتح له الباب ليطالع الصور العائلية المعلقة على جدار غرفته. ومن ثم يفتح باب ذكرياته يلامس فستان زوجته المتوفاة فتنطلق رائحتها زوجته وتلوح ثناياها له كطيف أبيض يناديه، يتذكر زفافهما، ولادة أول طفل لهما، زواج الأبناء وأحفاده. كما يتذكر والديه وحارته التي ولد فيها.

يراقص الكهل ثوب زوجته كأنه يودع الجزء المادي منطلقا إلى العالم الروحي حيث تصعد روحه ويستكين جسده بسلام وتبدأ ذكريات روحه التي شهدت جنازتها وأصبحت بعالم الحقيقة وأدركت أن حياتها كانت عبارة عن حلم مر سريعا، مدركا كم أن الحياة قصيرة كحلم وقد شاهدها كما شاهدها الجمهور من خلال ذكرياته خلال العرض المسرحي الحسي الموسيقي الصامت، حيث تواصلت الأحداث كعد عكسي للحظات السعيدة التي مر بها للحظات عابرة لانحسب لها حساب في وقتها الراهن وهي الذكريات الأجمل التي نتغذى عليها لاحقا.

عالج عرض “ماكبث المصنع” الذي قدمته فرقة كلية طب القاهرة وأعده وأخرجه محمود الحسيني، برؤية “إسقاطية” ـ إذا جاز التعبير ـ على أوضاع السلطة والحكم في العديد من المجتمعات وخاصة منها المجتمعات العربية، وذلك بالرغم من التزامه بجوهر القضية التي يطرحها النص الشكسبيري والمتمثلة في الأفكار المشوهة لماكبث، حيث الطموح الذي يؤدي بصاحبه إلى أن يسرق أشياء ليست من حقه، يسرقها جشعا وطمعا حتى لو كان ذلك بسفك دماء الآخرين.

حخح

هنا يستبدل الحكم/ الملك بالمصنع والحاكم أو الملك بعامل/ ماكبث يسعى للإطاحة بصاحب المصنع/ عمه، فيقرر قتله ويعلن نفسه مديرا للمصنع، فالمصنع بالأساس مصنع والده الراحل للتو، لكن القيود التي يفرضها عمه باعتبارها السلطة العليا تمنعه من أن يتولى الإدارة عقب رحيل والده، ومن ثم جاء قرار قتله، وتنصيب نفسه مديرا، ليبدأ في الضغط على العمال لزيادة الإنتاج، مما يؤدي إلى ثورة بين العمال رفضا لقراراته التعسفية ليبدأ السير الإنتاجي في المصنع بالتوقف.

تمتع العرض برؤية إخراجية متميزة انطلاقا منه شهدت خشبة المسرح تعدد الأمكنة والأزمنة، فمن صالة اجتماعات مرة ومنزل ومستشفى إلى مصنع تتجلى فيه كل أجواء المصنع من ماكينات وتروس وسير المنتجات.

إن الرؤية الإخراجية حققت تكاملا فريدا بين مكونين وعناصر العرض المسرحي من مناظر وديكور وموسيقى وأزياء وإضاءة ومؤثرات صوتية، وهذا التكامل استخدم بجدارة في كشف الصراعات الداخلية التي تمور داخل الشخصيات خاصة شخصية ماكبث وزوجته وأيضا صديقه بانكو الذي يمثل الضمير الحي المقاوم لأطماع ماكبث.

13