منال رضوان لـ"العرب": أشعر بحريق في أفكاري إذا لم أكتب ما يلح علي

الكتابة في أكثر من جنس أدبي والعمل الثقافي في أكثر من منبر أمر بالغ الصعوبة حين يجتمع في شخص فرد، يتطلب منه طاقة مضاعفة وقدرة على الفصل والوصل، ولكنه يمنحه في المقابل ثراء لا مثيل له في تجربته ورؤاه على حد سواء. وهكذا هي الكاتبة والناقدة المصرية منال رضوان. "العرب" كان لها معها هذا الحوار.
القاهرة - يشير السطر الأول في سيرتها الذاتية إلى أنها شاعرة وقاصة وروائية وناقدة أدبية مصرية. يبدو هذا غريبا أو ملفتا بالنسبة إلى البعض، فهل ما زال أحد يكتب في أغلب فنون الأدب؟ لكنه في سيرة ومسيرة الكاتبة منال رضوان أمر عادي، بل إنها فضلا عن ذلك تقوم بإعداد ملفات صحفية أدبية عن كبار الكتاب، وتمارس العمل العام بنشاط، من خلال لجان اتحاد الكتاب المصريين وجمعية الصداقة المصرية – الروسية.
يعتبر الكثير من الكتاب أن علاقتهم بالكتابة بدأت في سنين الطفولة الأولى، عندما كانوا يشرعون في تدوين خواطر أو مشاهدات أو محاولات بريئة في مجال القصة القصيرة، لكن حكاية منال رضوان مع فنون الكتابة المتنوعة جاءت مختلفة نوعا ما.
مقعد أمام البحر
تشير الكاتبة المصرية في حوارها لـ”العرب” إلى أن علاقتها بالكتابة ولدت معها، فقد كانت طفلة وحيدة لأم تعشق القراءة، وأدت عزلة الطفولة إلى انطوائها، فتعلمت التعبير عن نفسها بالرسوم أولا ثم بالكلمات.
وتقول “كنت أكتب رسائل صغيرة لوالدتي تعبيرا عن مشاعري، ومع مرور الوقت أصبحت الكتابة جزءًا أساسيا من حياتي. أحيانا، إذا لم أكتب ما يلح عليَّ أشعر بحريق في أفكاري، فالكتابة هي راحتي الوحيدة، حتى لقبني البعض بأنني مَن تكتب وإن تكن واقفة على حد السيف، ولا تزال الكتابة هي العلاج الوحيد لي.”
تعد منال رضوان ابنة مخلصة لمدينة الإسكندرية، تلك الملهمة التي طالما وقع في عشقها الكثير من الكُتاب والأدباء، وإن لم يكونوا من أبنائها، إلا أن ظروفا شخصية ترتبط بعمل زوجها قادتها إلى مغادرة معشوقتها إلى القاهرة، ما بدا أنه هجرة عكسية، مخالفة لطريق الصفاء والإلهام، نحو الضجيج والزحام.
وتعلق على ذلك بقولها “إن الإسكندرية هي عشقي الأبدي. ولا يمكن لمن نشأ فيها أن يغادرها بسهولة، فتنوع الثقافات في المدينة الكوزموبوليتانية يجعلها فريدة. ورغم أنني لم أعاصر الكثير من تاريخها، إلا أنني ألمس ذلك الثراء من حكايات الكبار.”
ولا يمكن لرضوان حتى الآن أن تنهي كتابة أي عمل لها إلا في الإسكندرية، وتحتفظ بمقعد في منطقة السرايا أمام البحر، فالبحر بالنسبة إليها ليس مجرد منظر، بل هو أفق يعيد لها الحنين ويمنحها شيئا مميزا لا يمكن وصفه.
أصدرت الكاتبة المصرية كتبا عدة في فنون الكتابة المختلفة، منها “قربان لا تأكله النار” و”أبواب كثيرة لعدن” في شعر الفصحى، و”رباعيات حب وبعاد” في شعر العامية، وثلاث مجموعات قصصية منها “طقس اللذة” و”سنوات الجراد”، ونصوص من السيرة الذاتية بعنوان “أضغاث صحوتي”، وكتاب “بين المصطلح والمفهوم.. قراءات نقدية في الرواية العربية الحديثة”، بالإضافة إلى رواية واحدة هي “بلكونة نحاس”.
تعتبر رضوان أن الفكرة هي التي تتحكم في تصنيف الجنس الأدبي الذي تختاره للكتابة به، لذلك فقد تعود إلى كتابة الرواية مرة أخرى في ضوء طبيعة الأفكار التي تريد التعبير عنها.
وترى أن فن الرواية كان يحتل مساحة كبيرة من الاهتمام حتى عامين ماضيين، وربما عزا البعض ذلك إلى مقولة الناقد الأكاديمي جابر عصفور “زمن الرواية”، ومن قبله الناقد الأكاديمي علي الراعي بقول إن الرواية “ديوان العرب”، وعزا البعض الآخر ذلك إلى الجوائز التي تذهب إلى الرواية، لكن الرأي النقدي لعصفور والراعي يعد كاشفا لواقع الحال وليس منشئا لواقع اهتم بالرواية على حساب الأجناس الأخرى.
تنشر الكاتبة المصرية إبداعات أدبية ومقالات نقدية في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية مصرية وعربية عديدة، وشاركت بالتحكيم في مسابقات للقصة القصيرة، وتم تكريمها في اتحاد كتاب مصر واتحاد الإذاعيين العرب. ووثقت مؤسسة أمارجي السومرية للفنون والآداب بالعراق سيرتها الأدبية في كتاب بعنوان “أسماء لامعة في سماء المدينة.. سيرة ومسيرة منال رضوان الأدبية”.
العمل الجماعي بما فيه من زخم وضجيج في بعض الأحيان لا ينال من شغف الكاتبة بالكتابة والعزلة والتأمل
واستغلت رضوان فترة جائحة كورونا لدراسة النقد الأدبي عبر الإنترنت، فحصلت على دبلومة في علم الاجتماع، اتبعتها بأخرى في التذوق الفني والنقد الأدبي من إحدى الجامعات الخاصة، ما وضعها على طريق تمتلك فيه أدوات نقدية تؤهلها لأن تقدم نقدًا ليس انطباعيًّا، إنما يتكئ على أرض صلبة من الدراسة والفهم.
وتكشف لـ”العرب” أن طبيعة النقد الذي تحب أن تقدمه يهدف إلى تكوين قراءة خاصة للنص عبر تفكيكه، وتحقيق الإفادة القصوى من الشق الثاني في المعادلة القرائية، ألا وهو القارئ، واستيعابه وتأويله للنص. وتقول “كوني مارست الكتابة في أكثر من جنس أدبي أفادني بالتأكيد في جمالية التلقي للنصوص المختلفة.”
نشرت منال رضوان أكثر من مئة مقال نقدي، تنوعت بين تقديم عروض محتوى لأعمال أدبية مع إضافة لمحة نقدية مبسطة للقارئ غير الاختصاصي، وتلجأ إلى هذه الطريقة – كما تقول – عند التصدي للأعمال غير المتاحة لجمهور القراء كتلك الفائزة حديثا بجوائز كبرى، فتقدم عرضًا لمحتواها دون إرهاق القارئ بتأويلات نقدية لعمل لم يطالعه بعد.
ويختلف الأمر عند تقديم دراسة نقدية حول نظرية ما، ففي هذه الحالة يكون الالتزام بالمنهج العلمي قدر المستطاع، وكذلك في المقالات التي تتناول فيها الأدب المقارن، إذ قدمت العديد من المقالات حول الأدب الفارسي والروسي والأندلسي وغيرها وهو المضمار البحثي الأقرب إليها.
وتستلزم الكتابة حالة من العزلة عند بعض الكُتاب، إلا أن الأديبة المصرية لم يمنعها الإنتاج الكثيف إبداعا ونقدا من ممارسة العمل العام بنشاط وتوهج، في ظل عضويتها بلجنة الإعلام في اتحاد كتاب مصر، فضلا عن قيامها بتنظيم وحضور العديد من الندوات والفعاليات، فكيف تنظر إلى العمل الجماعي بإيجابياته ومثالبه؟
هل نحن أمناء
ترد منال رضوان على سؤال “العرب” قائلة “التجرد هو مفتاح الشفرة، وأعتقد أن من يعرفني عن قرب يعلم هذا عني، وبما أن الأصدقاء يقولون إنني مصابة بهوس يسمى عشق مصر، فقد حاولت وأحاول تقديم رسالة من خلال كل ما أقوم به. ودعني هنا أكون أكثر مباشرة ودقة في اختيار الألفاظ. الوطن يتعرض الآن لظروف استثنائية، والاصطفاف خلفه أولوية قصوى؛ لذلك لكل وقت حديثه.”
وتتمنى في الوقت نفسه، عقب الاطمئنان على الوطن، أن يتم العمل بتجرد من دون “الشخصنة” التي تعد آفة خطيرة تجعل البعض في سبيل الحفاظ على المقعد يتجه إلى عقد مواءمات أو تولية أهل الحظوة والثقة حتى وإن أضر هذا بالصالح العام.
وتعتبر أن المنشآت الثقافية أيا ما كان مسماها؛ مؤسسات، نقابات، جمعيات، أو غيرها، يجب أن تعمل وفق نسقين؛ النسق الأفقي الذي يضمن لها النجاح والانتشار والتحقق، والنسق الرأسي الذي يؤرشف ويوثق ويترك للأجيال القادمة من دارسين وباحثين مادة قوية سليمة خالية من الأخطاء والميول والأهواء.
وتقول “آفة الرأي الهوى، وآفة العمل الجماعي التحلق حول المكاسب الشخصية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحن أمناء أمام الله وأمام ضمائرنا في أداء تلك الرسالة؟ أترك الإجابة لك وللقراء.”
تولت الأديبة المصرية رئاسة لجنة الإعلام بجمعية الصداقة المصرية – الروسية التي استأنفت عملها بعد توقف دام عدة سنوات، وبالنسبة إليها فإن الأدب الروسي كان ولا يزال الأقرب لها، لأنه أدب إنساني من الطراز الأول، إذ يعبر عن التغييرات السياسية والأيديولوجية التي مر بها المجتمع الروسي منذ بوشكين إلى الآن، ما جعله يتماس مع النفس الإنسانية، فيعبر عن آمالها، أحلامها، صعودها ونجاحها وانكسارها.
منال رضوان ابنة مخلصة لمدينة الإسكندرية، تلك الملهمة التي طالما وقع في عشقها الكثير من الكتاب والأدباء
تذكر رضوان أن في فترات زمنية معينة كان الأدباء الروس يمررون كتاباتهم من يد إلى أخرى فيما يعرف بأدب “ساميزدات”، وكانوا على استعداد لدفع ثمن غال في سبيل ذلك، وفي سبيل الحفاظ على الكلمة المكتوبة. ومع ذلك، فقد قدمت أبرز الكتابات وأكثرها شهرة في تلك الحقبة حتى وإن حاول البعض محاكمتها بشيء من القسوة، مثلا كفلاديمير أكيموف في كتابه “مائة عام من الأدب الروسي” الذي صدرت ترجمته عن المركز القومي للترجمة منذ سبع سنوات، إلا أنه وغيره لم يستطيعوا إنكار ما قدمه الأدب الروسي للإنسانية.
وتؤكد أن الأدباء والباحثين الروس يتلقون الأدب العربي بالاحتفاء ذاته، فقبل عام، قدَّم أحد الشعراء الروس في ندوة بالمركز الثقافي الروسي ترجمة لقصيدة “رؤيا” لصلاح عبدالصبور وألقاها بإيقاع غاية في الدفق والروعة.
وتقول “عندما تقرأ أيضا للأكاديمية ڤاليريا كيربتشنكو منجزها الذي قدمته عن يوسف إدريس بعنوان ‘خفايا الإبداع’ تجد الكثير من العمق الذي تمتعت به هذه الناقدة الحصيفة. وبالمثل العديد من المستشرقين الروس الذين يعشقون مصر وقد نلت شرف تحقيق بعض أعمالهم والكتابة عنها، ومنهم فلاديمير بيلياكوف، وجينادي فاسيلفيتش. وهناك بالطبع كبار الأكاديميين المصريين الذين مثلوا حلقة الوصل بيننا وبين الأدب الروسي، مثل مكارم الغمري التي قدمت أهم منجزات يستند إليها الباحثون في هذا المضمار.”
تسعى رضوان من خلال لجنة الإعلام في جمعية الصداقة المصرية – الروسية وفريق العمل بها إلى توسيع أثر التواصل بين المصريين والروس، قائلة “نحن نشهد عودة لروح جميلة من التعاون المشترك، خاصة أن مصر وروسيا تشتركان الآن في مشروع قومي ضخم لا يقل أهمية عن مشروع السد العالي، وهو مشروع الضبعة النووي، الذي نعقد عليه آمالا كبرى.”
ولا ينال العمل الجماعي بما فيه من زخم وضجيج في بعض الأحيان من شغف الكاتبة منال رضوان بالكتابة والعزلة والتأمل، إذ لديها حاليا أربعة أعمال في مرحلة التدقيق والمراجعة، هي الجزء الثاني من “أضغاث صحوتي” في السيرة الذاتية، و”105 فاصل أغاني” نصوص، وديوانا شعر فصحى وعامية بعنواني “خارج حدود النص” و”بنت بحر”.