مناظرة رئاسية أميركية بين اللامبالاة الدولية والسخرية الداخلية

قال المستشار الألماني أولاف شولتس، في مناقشة برلمانية حول اعتماد موازنة 2024، إن العالم قد يصبح أكثر “تعقيدًا” نتيجة الانتخابات الأميركية، لذا يجب أن يصبح الاتحاد الأوروبي أقوى.
أصاب شولتس في قراءته أن العالم سيصبح أكثر تعقيدًا نتيجة الانتخابات الأميركية، وبأن أوروبا يجب أن تكون قوية وأن تعتمد على قوتها الذاتية بعيدًا عن المظلة الأميركية. فبالنسبة إليه العالم أصبح أكثر تعقيدًا لأنه بات في الضفة المقابلة من الانتخابات الأميركية القادمة، وإنّ معارضي الهيمنة الأميركية على القضايا الدولية باتوا يشكلون القوى الصاعدة الهادفة لإحداث تغييرٍ في النظام العالمي.
حالة من اللامبالاة الدولية ترافقت مع المناظرة التي حصلت بين المرشحين إلى الرئاسة الأميركية، في دلالة على تراجع الدور الأميركي في معالجة القضايا الدولية. فقد قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الجمعة 29 يونيو الماضي، إن موسكو ليس لديها تعليق على المناظرة بين المرشحين لانتخابات الرئاسة المقبلة في الولايات المتحدة بين بايدن وترامب لأنها شأن أميركي داخلي، وفقًا لوكالة رويترز.
إصرار الدول الصاعدة على كسر قواعد الاشتباك التي وضعتها واشنطن له دلالات واضحة تكشف نواياها للسير بطريق تغيير النظام العالمي بغضّ النظر عن مناظرات أميركية رئاسية
بالمقابل، أثارت المناظرة ردود فعل إعلامية وصحافية أميركية؛ لقد دعت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية الرئيس جو بايدن إلى العدول عن الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة معتبرة ذلك “أكبر خدمة” يمكن أن يقدمها لبلاده، كما شنّت في الوقت نفسه هجومًا حادًا على منافسه الجمهوري دونالد ترامب واعتبرته شخصية غريبة الأطوار ومهتمة بمصالحها الذاتية ولا تستحقّ ثقة الجمهور.
أمام المشهدية العالمية القائمة اليوم، وبعد المناظرة الرئاسية “الهزلية” بين المنافسين الجمهوري والديمقراطي، تبادل الرئيس الأميركي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب الاتهامات في أول مناظرة بينهما قد تشكّل منعطفًا في انتخابات 2024 الرئاسية. وشملت الاتهامات المتبادلة قضايا مثل الإجهاض وطريق إدارة الاقتصاد والحرب في أوكرانيا وغزة.
جرت المناظرة في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، التي نظمتها شبكة “سي أن أن” الأميركية الجمعة 28 يونيو الماضي. وفي حين ظهر الرئيس بايدن متلعثمًا بالحديث طوال المناظرة، تبيّن أن الرئيس السابق ترامب كذّب ما لا يقلّ عن 30 كذبة بالمجمل بحسب الشبكة الأميركية.
تعيش الولايات المتحدة اليوم على وقع المناظرة الأولى بين بايدن وترامب وذلك في ظلّ قضايا دولية عالقة لن يستطيع أي من الفائزين وضع حدّ لها، لاسيما وأن العالم ينزلق أكثر نحو حربٍ أوسع مع الإصرار الروسي والصيني ومن يدور في فلكهما بإحداث “خربطات” جدية في النظام العالمي القائم. لقد تسبّبت إدارة الرئيس بايدن من خلال اعتمادها على سياسة “الاحتواء” للقوة الصاعدة التي تعمل على تعزيز حضورها أكثر في الساحة الدولية، بالوصول إلى نقطة “اللاعودة” حيث بات من الصعوبة فرض تسويات بين الأفرقاء.
مع صعود الولايات المتحدة لقيادة العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات وهيمنة القطب الواحد على تفاصيل السياسة الدولية، والعالم يعيش على وقع نتائج الانتخابات الأميركية. إذ لطالما كانت تشكل مصدر اهتمام، وتحتل المرتبة الأولى في سلّم الأولويات لدول العالم، ما يدفع بها إلى تحديد سياساتها الخارجية بما يتناسب مع إعلان الفوز الأميركي.
هذا كان بالأمس، أما اليوم فالعالم بدأ يرسم مساره بعيدًا عن الرؤية الأميركية، فخرجت حكومات العالم لتضع إستراتيجياتها المستندة على ضرورة إيجاد عالمٍ متعدّد الأقطاب، يحاكي حضور الدول ومصالحها. لهذا تغيّرت المفاهيم الأميركية التي كانت تحدّد الصديق والعدو، وتبدّلت سياساتها التي اعتمدت على مبدأ “الفوضى الخلاقة” في العالم لإحداث الشقاقات بين الدول.
سقطت سياسة الـ”بعبع” التي كانت ترسمها واشنطن والتي كانت تختلف مع الدول التي تهدّد مصالحها الخارجية. فهذا كان حال الصين مع دول الجوار، وكذلك وضع إيران في محيطها الشرق أوسطي؛ فأن يعلن رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ في كانيبرا، الثلاثاء 17 يونيو الماضي، أن علاقة الصين مع أستراليا تسير على المسار الصحيح مع تجاوز الشريكين التجاريين نزاعًا اقتصاديًا مريرًا، يعتبر تطورًا مهمًا لم ينتظر نتائج الانتخابات الأميركية، لا بل إن التقارب سيفرض وقعه على نتائج الانتخابات الأميركية وسيحدّد إطار سياسة الرئيس العتيد المنتظر.
بالتوازي فقد شكّل التقارب الإيراني مع دول الخليج العربي صدمة كبيرة في سياساتها الخارجية، فبعدما لعبت واشنطن على مدى عشرات السنين دور “الضمانة” الأمنية للمنطقة من المدّ الإيراني، أصبحت في ظلّ التقارب الحاصل خارج المعادلات. إذ ذكرت وكالة أنباء البحرين الرسمية أن المملكة وإيران اتفقتا على “إنشاء الآليات اللازمة من أجل بدء المحادثات بين البلدين لدراسة كيفية استئناف العلاقات السياسية بينهما”. وجاء ذلك في خلال لقاء جمع وزير الخارجية البحريني عبداللطيف الزياني والقائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني علي باقر كني في طهران.
هذا الاتفاق كان قد سبقه انفتاحًا دبلوماسيًا على كافة المستويات بين إيران والمملكة العربية السعودية برعاية صينية. هذا ما وضع اتفاقية “كوينسي” بين المملكة والولايات المتحدة موضع التأرجح على حافة الانهيار، وقد برز ذلك في الدول المعارضة لسياسات واشنطن للمملكة في مجموعة “أوبك بلاس” في شأن طلب واشنطن زيادة الإنتاج بهدف خفض السعر، وهذا ما لم يحصل.
زعزعة ثقة العالم بالولايات المتحدة لم تأت فقط عن طريق كسر الصورة النمطية التي رسمتها واشنطن للدول، بل أيضًا أخذت جانبًا عسكريًا في الحرب الدائرة في أوكرانيا بين الغرب وروسيا، وتلك التي تجري في غزة. حملت المناظرة بين المنافسين رؤيتهما لمعالجة الحروب الحاصلة، لكنّ الواقع بات خارج المنافسة، وإن وقف الحروب الدائرة لم يعد مرتبطًا بالإرادة الأميركية، بقدر ما بات يشكل جزءًا من الرؤية المستقبلية لما يجب أن يكون عليه العالم.
إن إصرار الدول الصاعدة على كسر قواعد الاشتباك التي وضعتها واشنطن له دلالات واضحة تكشف نواياها للسير بطريق تغيير النظام العالمي بغضّ النظر عن مناظرات أميركية رئاسية. لهذا لم تعد للعالم اهتمامات بالشأن الانتخابي الأميركي، لأنه بحسب رؤيتهم لن يغيّر هذا في مجرى الأحداث كما كان في السابق، حتى ولو أخذت واشنطن خيار الحرب مع الدول الصاعدة.