ملوثات وليدة زمنها

الملوثات السمعية، في الغناء، سمة كل زمن رديء. وليس النهي عن سماع الفن الراقي – دون النهي عن الكسب غير المشروع – إلا قريناً بمقاربات الغيبوبة تحت ذريعة التقوى.
الأحد 2021/11/21
محبو الموسيقى ما زالوا يشنّفون آذانهم بما تشدو به أم كلثوم

بعد أن طفح الكيل من الملوثات السمعية المنبعثة من مكبرات صوت المركبات الخفيفة ذات العجلات الثلاث، وبعض السيارات من ذوات الأربع؛ قررت نقابة الموسيقيين المصرية حظر تداول أغينات عشرين متعاطٍ مع فن الغناء والموسيقى. فقد أصبح أمر هؤلاء منذ الآن مُعادلاً موضوعياً في التخفي والخروج على القانون للأنواع الكثيرة من المخدرات التي تحولت إلى آلية “الديلفري” في التوزيع، حسب تقرير مفصّل نشرته صحيفة “اليوم السابع” المصرية، وعرضت أنواعها وأسعارها ومراكز توزيعها.

مغنو الملوثات السمعية خلعوا على أنفسهم أسماءً تلوّث – ابتداءً – الفطرة السوية التي توخاها آباؤهم وأمهاتهم في أيام مواليدهم. فهذا حسن شاكوش، وذاك كُزبرة ومعه حنجرة، وحمو بيكا، مع فيلو، وموزة وحمو طيخة، وريشا كوستا، وشواحة، وشطة، ووزة، وشَكَل، وحاحا. فهذه كلها أسماء مطربي زمن ملتبس ومعقد، زادت اضطرابه دون أن تُبطئ تناميه دعوات الأصوليين الطوباوية. فالدولة في طبائعها تنشغل بمن يمثلون خطراً على استقرارها ولا تركز على شاكوش وشَكَل وحاحا والآخرين!

الموسيقيون المصريون استشعروا الحرج من تفشي هؤلاء. فمن يعرف تاريخ الموسيقى في بلدان الشرق يعلم أن العزف والإيقاع قد تلازما مع نزعة التصوّف الإسلامي، وآداب العرب والفرس والأتراك والشعوب الناطقة بالأوردية والسنسكريتية. وعندما تُرجمت مؤلفات جلال الدين البلخي الرومي إلى اللغات العالمية المعاصرة ومن ضمنها اللغات الأوربية، غنّت نجوم موسيقى “البوب” في الغرب ترجمات أشعار الرومي وسواه، لتعظيمها قوة الحب، واستأنست بما استقرت عليه ثقافة الشرق من تقدير للفائدة الروحية للموسيقى على اعتبار أنها من الدُرر الثمينة، ومن مخزون الحضارة الإسلامية والإنسانية. فالرومي نفسه، وهو فقيه “حنفي” وشاعر ومتصوف، قدم شعراً أدهش فناني الغرب الذي تقدم علمياً وتراجع روحياً وعاطفياً. ففي قصيدته “أنين الناي” يبث العبارات التي تأسر الحيارى. تحدث عن الأذن الواعية والعين المُبصرة. فالناي “يقص علينا حكايات الطريق التي خضَّبتها الدماء، ويروي لنا أحاديث عشق المجون” و”الحكمة التي يرويها، مُحرَّمةٌ على الذين لا يعقلون، إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية”!

في طبول الملوثات السمعية المنبعثة من مكبرات صوت العربات تتراجع الذائقة عن مستواها قبل العشرات من القرون

وقد غنت أم كلثوم في سبيكو موسيقية وشعرية “حديث الروح” للشاعر الهندي المسلم محمد إقبال صاحب فكرة تأسيس باكستان، والفيلسوف المتصوف وأستاذ الأدب الإنجليزي ورئيس عصبة مسلمي الهند. ونقل القصيدة من الأوردية إلى العربية في دقة وعذوبة الشاعر والشيخ الأزهري الصاوي شعلان. وما زال محبو الموسيقى يشنّفون آذانهم بما تشدو به أم كلثوم “إذا الإيمان ضاع، فلا أمان ولا دنيا لم لمن يُحيِ ديناً.. ومن رضى الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء لها قرينا.. ألم يُبعث لأمتكم نبيٌ يوحدكم على نهج الوئام.. ومصحفكم وقبلتكم جميعاً منارٌ للأخوة والسلام، وفوق الكل رحمن رحيم؟ إله واحدٌ رب الأنام”!

في طبول الملوثات السمعية المنبعثة من مكبرات صوت العربات تتراجع الذائقة عن مستواها قبل العشرات من القرون. ولعل هذا التراجع من بين الانعكاسات السلبية للأصولية التي سعت لتجفيف بعض فطرة الإنسان، رغبته في سماع الموسيقى. وكأن الأصوليين اليوم أصح فقهاً وفكرا من الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري، الذي نَقد جميع العلماء القائلين بتحريم الغناء والموسيقى، وحصر تحريمهما في الملاهي بسب أن اللذة المتأتية عنهما تتم بالمنكر حسب قوله.

كانت الملوثات السمعية، في الغناء، سمة كل زمن رديء. وليس النهي عن سماع الفن الراقي – دون النهي عن الكسب غير المشروع – إلا قريناً بمقاربات الغيبوبة تحت ذريعة التقوى!

20