ملحم بركات "الموسيقار" يرحل تاركا ألحانه الكبيرة حية بين الناس

باريس - أيقونة من أيقونات الغناء العربي، أنغامه وكلماته بقيت ترافقنا حوالي نصف قرن، ملحم بركات الذي بدأ مسيرته من الجلسات والحفلات الخاصة في قريته، تحوّل إلى نجم يحضر بأغنياته على أشهر الشاشات وأهم المسارح في العالم.
بركات يصنف كظاهرة موسيقيّة، فهو ملحّن ومغن وموزّع ومؤدٍ وممثل، عمل مع أشهر الأسماء الموسيقيّة، سواء من جيله أو الأسماء الشابة في عالم الأغنية العربيّة. ولا يمكن إنكار ما قدّمه من نتاج موسيقي يشكل نقطة علّام في تاريخ الموسيقى العربيّة المعاصرة وخصوصاً الأغنية اللبنانية.
بركات ولد في العام 1945 في قرية كفرشيما في لبنان، شاب اتخذ من الموسيقى هوساً له، كان يمارسها سرّا بعيداً عن أعين أسرته. بدأ مسيرته من عمر صغير، يُطرب الحاضرين في الأعراس والاحتفالات الشعبية.
بداية علاقته مع الموسيقى كانت مع محمد عبدالوهاب، إذ كان يسرق العود ويقلّد ألحانه وأغنياته بالرغم من رفض أسرته لذلك. إلا أنه تمكن لاحقاً وبالرغم من معارضة والده من الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى “الكونسيرفاتوار”. وبعد أربع سنوات من الدراسة الأكاديميّة ترك معهد الموسيقى، إثر نصيحة من الملحن اللبناني الشهير فليمون وهبة.
موهوب بين العمالقة
تمكن بركات من الانضمام إلى فرقة الرحابنة المسرحيّة، حيث عمل معهم ملحناً لفترة، وشارك في بطولة مسرحية “الربيع السابع”، ثم قرر أن يشقّ مسيرته الخاصة بدعم من موسيقيي جيله، ليكون من القلائل الذين تمكنوا من الخروج من ظل عملاقي الموسيقى اللبنانيين، عاصي ومنصور الرحباني.
نجح في أن يخط لنفسه اسماً كبيراً. إذ لحّن لكبار المغنين كوديع الصافي وماجدة الرومي التي لحن لها “اعتزلت الغرام” وصباح التي لحن لها “كحل العين” و”ليش لهلق سهرانين” ووليد توفيق الذي لحن له “أبوكي مين يا صبيّة”، لتشتهر الأغاني التي لحّنها سواء كانت منفردة أو ضمن مسرحيات كـ”المجوز الله يزيدو” إلى جانب بطولته لعدد من أفلام السينما منها “المرمورة”، و”يا حبي الذي لا يموت”. و”آخر الصيف”. إلى جانب ظهوره المسرحي في أعمال كـ”الأميرة زمرد”، و”حلوي كتير”، و”ست الكل” مع صباح، و”يعيش يعيش” و”هالة والملك” مع فيروز.
ملحم بركات يعد الوحيد الذي نجح في الخروج من عباءة عملاقي الموسيقى اللبنانيين، عاصي ومنصور الرحباني. بعد أن انضم إلى فرقة الرحابنة المسرحية، حيث عمل معهم ملحنا لفترة، وشارك في بطولة مسرحية "الربيع السابع"، ثم قرر أن يشق مسيرته الخاصة بدعم من موسيقيي جيله
لاعب على القلوب
يعتبر الموال من أشهر مميزات بركات الموسيقيّة، لنسمع صوته يصدح طويلاً في الغناء عن الحبيب والرحيل والهزيمة ثم النصر، فملحم بركات يلهب جمهوره أيّا كان، حتى ولو بدندنة فقط، مع ذلك مسيرة بركات الفنية واجهت بعض الصعوبات إثر الحرب الأهلية في لبنان، وخصوصاً أن الجو العام لم يكن مناسباً إلى جانب الضائقة الماليّة التي كان يمرّ بها، لكنه لم يتوقف عن العمل.
إبّان الحرب اتّجه بركات نحو الأغنية الجماهيريّة، فلحّن لوليد توفيق أغنيته الشهيرة “أبوكي مين يا صبيّة”، لتكون إثرها انطلاقاته الفنيّة الجديدة، مكتسحاً مسارح المنطقة العربية والعالم، بالشراكة الدائمة مع الشاعر نزار فرنسيس، الذي بقي على تعاون دائم وعلاقة وديّة حتى وفاة بركات.
أعاد بركات الاعتبار للأغنية الكلاسيكية بصورة عصرية، وأخرجها من جمودها وغنائيتها التي قد تستمر لساعات. ما جعله متنوع الجمهور، لا فئة محددة يتخصص بها، كما أنه يعتبر من المتمسكين باللهجة اللبنانيّة إذ قدمها للجمهور العربي دون مواربة، ولم يلجأ كما فعل غيره من أبناء جيله إلى الغناء باللهجة المصريّة والذي يعتبر اللجوء إليها خيانة. وهذا ما ميّز بركات بوصفه “حامل لواء الأغنية اللبنانية”، وبقي قادراً حتى آخر أيام حياته على إلهاب المدرجات تصفيقاً أو دموعاً، إذ كان ذا حضور خلاب على خشبة المسرح، صوت جهوري متماسك، وقدرة على الإطراب ولو بدون موسيقى، هذه الثقة في الحضور أكسبته محبّة جماهيريّة لا يمكن إنكارها بالرغم من مواقفه السياسية والموسيقيّة، فالأخير يؤدي على الخشبة مازجاً المزاح بالجد، نزقاً وغاضباً في بعض الأحيان، وأحيانا يثير الضحكات، لنراه يصدح بعدها طويلاً بموال يداعب دموع العين لتسيل.
|
تصريحات بركات الفنية قاسية بل وتصل حد الإهانة، كحديثه عن فيروز ووديع الصافي، ودعوته إياهم إلى البقاء في منازلهم، واعتزال الغناء لأسباب صحيّة ما يؤثر على مكانتهم وصورتهم أمام الجماهير، إلى جانب خصوماته الكثيرة مع مغنيي المرحلة الحاليّة، كتصريحاته عن كاظم الساهر ومروان خوري وغيرهما، فهو لا يوارب في قوله ولا يجامل بل حتى أنه يؤكد عام 2011 أنه لم ولن يتعاون مرة أخرى مع فيروز، وأنه لن يتحدث أبداً عن العلاقة مع الرحابنة.
مواقف مثيرة للجدل
هذه المواقف جعلت الأخير دوما حاضراً في الصحف إثر خصوماته الكثيرة، أشهرها خصامه مع ملحم زين وإليسا وماجدة الرومي مؤخراً، وتبرز قسوة تصريحاته فيما حدث في حفلة الجزائر التي أحياها مؤخراً، إذ لم يحضرها الكثير من الجمهور، ما أثار غضب بركات وخصوصاً الإشاعات والشكوك حول طرد نور مهنا من على خشبة المسرح بسبب مواقفه المؤيدة للنظام السوري.
وحين توفّي وديع الصافي وجرى تكريمه، كان بركات يرى أن الدولة اللبنانيّة “لم تقصّر به”، إلا أننا نرى له موقفاً مثيراً، فبالرغم من أن التكريم مخالف للقانون، إلا أنه يرى أن عدم قيام الدولة اللبنانية بتكريم غيره منطقياً، فإما أن يكرّم الجميع أو لا، وهو يؤيد هذا المنع حسب تصريحه “إذا أرادت الدولة تكريم كلّ الفنانين فإن ذلك سيصبح كارثة، لأنه يوجد الكثير من الحمير في الفنّ؛ ولذلك لا تستطيع الدولة أن تكرّمهم جميعاً عملاً بتطبيق القاعدة على كلّ الفنانين”.
لكن بركات وقبل رحيله، يقال إنه حسم كل خلافته مع من حوله، وخصوصاً مع الفنانة ماجدة الرومي التي زارته في المشفى لإنهاء الخصومة، ليرحل عن العالم بعد صراع طويل مع المرض، وسط ألم وحزن يعمّ الجمهور العربي الذي خسر برحيل ملحم بركات قامة موسيقيّة لن تتكرر، إذ تضج مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات العزاء لرحيله سواء من المقربين منه أو من جمهوره.
الموسيقي المشاكس
حياة ملحم بركات الشخصية لم تكن خفية على أحد، إذ أنه تزوج مرّتين وله أربعة أطفال آخرهم “ملحم جونيور” من زوجته الثانية مي الحريري، التي اشتهر بخلافه معها بعد الطلاق وخصوصاً في ما يتعلق بوصاية ابنه ملحم وأموال النفقة، الحريري التي اتهمها بركات بأنها كانت تستخدم “ملحم جونيور” لاستجرار العطف والمال.
|
لا يكتم بركات استمتاعه بالسهر والطيش والنزوات، إلى جانب تلذّذه بالطعام التقليدي والحياة البسيطة وهوايته في صيد الطيور البرية التي كانت ملاحقتها طقساً خاصاً به.
شخصية بركات التي نراها على المسرح أو شاشات التلفزيون لا تختلف عن الواقع. هو واضح وصريح، لا يجامل، مواقفه السياسية لا مواربة فيها. فالأخير يحيي حفلات في سوريا منذ سبعينات القرن العشرين إلى جانب أشهر موسيقيي تلك الفترة في سوريا، لكن موقفه من النظام السوري لم يكن واضحاً حتى وفاته، فهو يعلن تأييده لحزب الله إثر معاركه ضد إسرائيل وتدخله ضد الشعب السوريّ، ويرى أن هناك قرارا دوليا بإنهاء حزب الله، وفي تصريحاته عام 2014 نرى الكثير من التذبذب في موقفه من الربيع العربي والثورة في سوريا، إلى جانب تسليمه بنظريات المؤامرة الدولية، وأن ما تشهده المنقطة من ثورات “لم يعجبه”، كما لا يتضح كلامه عن الأحزاب الأخرى في لبنان، ليبدو حديثه غامضاً نوعاً ما، وأحياناً ساذجاً لا يتجاوز الانطباعات الشخصية الضيقة جداً، لكن مع ذلك كان يسعى حسب
تعبيره لإنجاز أغنية تتعلق بأطفال سوريا، ويعلن أنه متمسك بلبنان فقط وبالأغنية اللبنانيّة، ولا تخفى على أحد غرابة تصريحات بركات التي يطلقها في كل مناسبة دون أيّ رادع، كما لا تُستغرب علاقته الوديّة مع زعماء المنطقة العربيّة، إلى جانب إعجابه بالزعيم الليبي معمر القذافي، بل تلحينه لإحدى قصائد الأخير المنشورة في إحدى الجرائد وغنائه لها بعنوان “أبحث عنها”.