ملتقى الفيديو آرت الدولي يستقطب الفنانين المعاصرين إلى السعودية

يراهن ملتقى الفيديو آرت الدولي بالسعودية على تقديم استعراضات بصرية لفنون الفيديو، طارحا تصورات بصرية فنية وتشكيلية معاصرة؛ صارت سنة إثر سنة تستقطب جمهورا واسعا علاوة على طيف من أهم الفنانين العالميين، في مساحة لا تقوم على التلقي المعتاد بل على التناول الواعي للأعمال الفنية المعاصرة.
"خيال يتجسد.. واقع يتحوّل" هي الرؤية السادسة التي أرادها ملتقى الفيديو آرت الدولي في دورة جديدة فتحت أبواب الحلم إليها بقبول 56 فيديو آرت من 29 دولة، من أصل 127 من 41 دولة، وستقام الدورة في شهر ديسمبر الجاري في الخبر بالمملكة العربية السعودية.
الأعمال حسب لجنة التنظيم – التي تشرف عليها إدارة ملتقى الفيديو آرت الدولي والمكوّنة من خبراء مختصين وفنانين، تنظمها سنويا جمعية الثقافة والفنون بالدمام هذا العام بالشراكة مع جمعية السينما- تمتاز بالتنوّع المتعوّد تحمل خصوصيات بصرية مختلفة، بمقاييس محترفة من حيث الأسلوب والتقنيات والأداء والمفاهيم والمواكبة.
توسيع التلقي والفهم
الموعد متنوع هذه الدورة التي ستركّز على التجارب السعودية وتوافقاتها التقنية والتفاعل مع الوسائل الرقمية
اعتبرت الدورة حسب تصريح مدير الملتقى ومؤسسه يوسف الحربي “إكمالا للمشوار الذي بدأناه حلما في سنة 2016 وتبلور حقيقة في 2018 وانتقل إلى النضج دورة بعد دورة، محقّقا إقبالا وانتظارا من الفنانين والمتلقين الذين تعرّفوا على نمط فني جديد وشكل مُبتكر من الفنون المعاصرة في المملكة، فقد حاولنا في الدورات الأولى أن نعرّف بهذا الفن ونقدّمه للجمهور ونجيب عن تساؤلاته المتعلّقة بتصنيف هذا الفن بين الفيديو والفيلم وبين الفيلم واللوحة، حيث اخترنا أن ندمج التجارب السعودية والعربية مع التجارب الدولية، وحاولنا أن نطرح تاريخ نشأة الفن وظهوره ونقدّم أبرز الأعمال والفنانين من الرواد والمؤسسين من التجارب العالمية والعربية والسعودية واستعرضنا البحوث والدراسات التي ارتكزت على هذا الفن.”
وتابع الحربي “كان عملنا بين تعريف وتقديم وعرض استطعنا فيه أن نخلق فضاءات للفنانين السعوديين ونحتويهم بخبراتهم ونفسح لهم مجال العرض والتعريف، وانتقلنا أيضا بالملتقى إلى شركاء آخرين لتوسيع التلقي والفهم وهي رؤية نجحنا فيها وزادت من يقين الاستمرار في هذا العمل والتعاون مع الطاقات البشرية السعودية بشغف وثقة وحضور وتعاون لذلك اخترنا لهذه الدورة أن تحمل خيالنا المتجسّد في قيمة الفعل والتعاون والاستمرار من أجل مواكبة الواقع والتحولات المفهومية والفنية والتقنية خاصة مع تطورات العالم الرقمي ودخول تقنية الذكاء الاصطناعي التي حملت هذا العام تجريبا فنيا بصريا في الأعمال المنتقاة”.
يقدّم الحربي رؤيته البصرية التعريفية للفيديو آرت بصفته باحثا مختصا أيضا سبق له أن نشر كتابا يعتبر مرجعا مهما في رصد تاريخ الفيديو آرت “الفيديو آرت التأثر والتأثير في التجربة الخليجية والعربية”، وهي رؤية عميقة وشاملة استطاعت أن تبلور حلمه وفكرته وإشرافه على الدورات التي رسّخت مفهوم الفيديو فنا مستقلا بذاته ومسارا بصريا احتوى التقنيات الحديثة.
فن مستقل الهوية
يعرف الفيديو آرت أيضا بفن الفيديو كمصطلح غربي لفن يشرح تقنية تسجيل الصور مع الصوت منذ ظهور الكاميرا المحمولة ونظام الفيديو التسجيلي في التصوير، ومنذ أن أثّرت الصورة والموسيقى والشاشات على “بايك” أبي الفيديو آرت، ومبتكر هذا الفن الذي أثبت أن التلفاز باعث الصور هو الاختراع الأكثر تأثيرا على الرؤى البصرية حيث اعتبر أن غرابة دوشامب الفرنسي الذي كسر قيمة الجماليات انتهت لتصبح اعتيادية عندما فتح التلفزيون منافذ الصورة وتوقعاتها البصرية ذهنيا.
لقد ساعدت وسائل الإعلام المرئية على تقبل فكرة الفيديو آرت في الغرب إذ كان حضور الفيديو التصويري التلفزي منذ السبعينات المصاحب للأغاني يثير الضجة الدعائية للأغنية، وفي نفس الوقت يخلق إثارة بصرية تطوّرت إلى الثمانينات لتكون فكرة الفيديو كليب المصاحب للأغاني، فكرة حوّلت المشاهد المصورة إلى مفاهيم وأبعاد بصرية، وأصبح مقطع فيديو له مخرجوه المختصون ويرجح أول فيديو كليب عالمي بمفهومه المعاصر كان للفنان مايكل جاكسون وأغنية “ثريلر”.
إن اعتماد رؤى الفيديو آرت منذ الثمانينات كان يرافق الأغاني التي أكسبتها تصوّراته ورسّخت لدى الجمهور المتلقي للفن والموسيقى هذه الفكرة في مفاهيميتها ليصبح أمر عرض الفيديو آرت في المعارض الفنية والمتاحف والملتقيات أمرا اعتياديا بل ومنتظرا.
وظهرت تجارب عالمية تركّز معها المفهوم وتدعّم في السرد البصري مثل تجارب بروس ناومن الذي ركّز الصورة مع حركة الجسد والألوان والضوء بمفاهيم وجودية العلامات، وتجربة دوغ أيتكن في تصوير حالات الطبيعة والعمارة والتغيرات الحسية بمفاهيم التفاعلية المادية، وتجربة ماثيو برناي المثيرة للجدل الفكري والفلسفي ذات البصريات السريالية، أو بيل فيولا الذي وظّف المفاهيم البصرية النفسية وجدلياتها الفلسفية في حركة الذات والوجود.
إن كل التجارب الغربية العالمية حوّلت بشكل مرحلي فكرة المشهد إلى المفاهيمية البصرية وكان عبورها نحو فنون ما بعد الحداثة سلس التقبل، خصوصا في التمرد على عوائق التابوهات الجسدية الفكرية والاجتماعية والعقائدية، لأن الحركة الخاصة بالتغيير كانت متوازية بين الصورة والمشهد والفكرة والفلسفة والوعي والأدب، فدرجة التقبل حتى لو لاقت النقد والرفض هي حالة طبيعية في التلقي والعرض والتفعيل المتقابل مع خصوصياتها الفكرية الناهضة بذاتيها الفردية في المجتمع المنفتح عليها، فالتجريب خلق نشاطا وحركية لهذا الفن من خلال فرض المعاصرة برفض الكلاسيكيات والحداثة دون أن تنفصل المفاهيم عن طبيعتها الفنية حيث تجددت في مساراتها التعبيرية من خلال التسلسل المرحلي المبتكر.
تعزيز التلاقي والتجريب
المقارنة بين التجربة الغربية والعربية في المرور من فكرة المشهد إلى المفهوم البصري طرحها الباحث والكاتب والفنان التشكيلي العراقي صدام الجميلي باعتبارها مسألة ترتكز على التحولات الفنية العربية في المفاهيم المعاصرة حسب ما ذكره في كتابه “خاصرة الصورة: سؤال الأصالة في الفن العربي المعاصر”، “بدءًا بحرية الأنا المفردة التي تبدع ولا تحاكي، وصولاً إلى جمهور يعرف الفن ويعترف به، ويتمتع بثقافة لا ترى الفن ‘إضافة هجينة‘ إلى المجتمع، ذلك أن التعامل مع الأعمال الفنية يقتفي تربية فنية، لها مراجعها الواسعة في المناهج المدرسية، والمتاحف، وفي تكريم المتخيل الطليق.”
فالتحول العربي نحو الفن المعاصر ككل ونحو تقبل فكرة المفاهيم البصرية من خلال الفيديو آرت يحتاج التوعية الفكرية القادرة على انتقال التلقي من المشهد الفني إلى المفهوم البصري خاصة أنها لم تزل إلى وقتنا الحالي مقترنة بالتقبل السطحي والتلقي الاعتيادي المباشر الباحث في الصورة عن المتعة والترفيه أكثر من الفكرة والمفهوم، لذلك نجح ملتقى الفيديو آرت أن يكون موعدا سنويا يستقبل فكرة الفن المعاصر بكل تفاصيلها من العرض إلى التجسيد ومن الصناعة إلى الطرح حسب التجريب والبحث والتعرّف على الجديدة فنا وتقنيات.
لذلك اعتبر الفنانون المشاركون في دورات ملتقى الفيديو آرت الدولي أنه فرصة للعرض والاستعراض بمعنى تقديم التجربة والاطلاع على التجريب من عدّة رؤى وتفاصيل تقنية مفهومية جمالية وفنية وهو ما صرّح به الفنان التشكيلي المصري أحمد محسن منصور”الملتقى يعدّ حدثا مميّزا وفرصة جيّدة للفنانين لعرض أعمالهم وتجريب أفكارهم، خاصة مع دخول التقنيات الجديدة والتجريب بالذكاء الاصطناعي، فالملتقى كان فرصة لعرض الفكرة والمفهوم وتجريب صناعتها وتوظيفها مع التقنيات والمؤثرات وبالتالي عرضها بما يتوافق مع الأفق الفني.”
واعتبر الإسباني فران أورالو أن مشاركته في ملتقى الفيديو آرت كانت فرصة له للتعرّف على تجارب بصريّة متنوّعة ومختلفة من حيث الفكرة والتنفيذ ومن حيث التقنيات والأسلوب والمعالجة وهو ما أضاف له تصوّرات جديدة وابتكارات مختلفة وخاصة.
وهو ما أضاف عليه الكرواتي برونو بافيك من حيث أن مثل هذه الملتقيات الخاصة بالفيديو آرت تفتح أفق التعريف والتعرّف وتبادل الخبرات وصياغة التجريب.
الفنان التشكيلي المصري المقيم في ألمانيا إيهاب عزيز يقول “مشاركتي كانت منذ الدورة الثانية عن الأنماط المستخدمة لإنجاز فيديو آرت، قدّمت بعض الأمثلة التي قمت بعملها، أو مع مشاركاتي مع مجموعه من الفنانين الأوروبيين (Performance art). والعام الماضي كنت عضوا بهيئة التحكيم وقد أعطتني التجربة خبرة جيدة لاختيار الأعمال المشاركة والمتميزة في الدورة الخامسة، وقد لاحظت أن الأعمال العربية المشاركة متطوّرة في الصناعة والفكرة وأغلبها يتعامل مع مفاهيم اجتماعية تعكس الهوية والانتماء والبيئة.”
ويضيف “أيضا ورش العمل المصاحبة للملتقى مهمة لأنها تدمج الخبرات وتفتح الأفق للهواة وهو ما يجب على الملتقى أن يهتم به دوما خاصة بتحويل فكرة الصناعة إلى فكرة التساؤل والخوض بجرأة في التجريب والبحث فلسفيا في الفكرة الاعتيادية لتحقيق التماس الجمالي والفني، وما أتمناه مستقبلا إنشاء متحف لفن الديجتال ومنه الفيديو آرت، كذلك Installation art يهتم برواد هذا الفن الرقمي من وطننا العربي حتى يكون لنا مكان على الخارطة العالمية للفن بتطوراتها ويكون أيضا موثقا عالميا.”
تقول التشكيلية الكويتية مها المنصور “الملتقى كان فرصة لعرض أعمالي وتفاعل الجمهور معها وقد لاحظت مدى الوعي ودرجة الشغف التي استطاعت أن تكون ثابتة طيلة الدورات المتنوّعة من الملتقى حيث ارتكزت على البحث والتعاون وترسيخ الرؤية والقيمة الفنية بالتوازي مع الدقة في الأسلوب، وهو موضوع مهم جدا من أجل تطوير هذا الفن والتطوّر به لأنه مواكب أيضا للتطوّر التقني، فالملتقى له صدى مميّز ودفع باهر بالفنون المعاصرة ودورها في الحركة الثقافية والمشهد التشكيلي المحلي والعربي وتشجيع الفنانين على الانفتاح على التجارب العالمية.”
إن الموعد سيكون متنوعا لهذه الدورة الجديدة التي ستركّز على التجارب السعودية وتوافقاتها التقنية والتفاعل مع الوسائل الرقمية الجديدة والمحامل المتنوّعة التي تنهض بالصورة والفيديو وتتوافق مع البيئة والمحتوى البصري المتجدّد.