ملامح لانتقال السلام البارد إلى سلام دافئ بين مصر وإسرائيل

الميراث المصري في الخطاب السياسي الذي كان يخشى من تطوير العلاقات مع إسرائيل بدأ يتراجع مع خفوت صوت المعارضة الداخلية وتسابق بعض الدول العربية على التطبيع.
الأحد 2021/08/22
مصافحة بين كمال عباس ونفتالي بينيت

زيارة رئيس جهاز المخابرات المصرية اللواء عباس كامل إلى إسرائيل ترسل إشارات قوية على إحياء مسار السلام الثنائي بعد أن خفت خلال السنوات الماضية. وفيما نجحت إسرائيل في توسيع دائرة تحالفاتها في المنطقة، وأخذ تأثيرها بعد أكثر قوة، بدأت القاهرة في مراجعة ما تسميه معادلة البرود الاستراتيجي مع إسرائيل، وهي معادلة تحافظ على العلاقة الثنائية في حدّها الأدنى.

فتحت الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات المصرية اللواء عباس كامل لإسرائيل الأربعاء والخميس الماضيين، بابا واسعا للقول بأن هناك مرحلة جديدة بين القاهرة وتل أبيب سوف يتم نسج خيوطها بعد أن وجه كامل دعوة رسمية من الرئيس عبدالفتاح السيسي لرئيس وزراء إسرائيل نيفتالي بينيت لزيارة القاهرة قريبا، وبعد أن حوت الزيارة مضامين تشير إلى رغبة مشتركة لتطوير العلاقات.

ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة منذ التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل قبل حوالي أربعة عقود حريصة على تجميد التطبيع، وهو ما أصبح يوصف بـ“السلام البارد”، كدليل على عدم انتقاله إلى مناطق ساخنة كانت تل أبيب تتوقع طرقها مع القاهرة، والتي ارتاحت لصيغة البرود أو الجمود السياسي لإرضاء تيار المعارضين للسلام، مصريا وعربيا، والحصول على مساحة مرنة للحركة في القضايا القومية، والتأكيد على أن معاهدة السلام لا تتخطى مرحلة لوقف الحرب ليس أكثر.

جرت مياه كثيرة في هذا النهر، صعودا أو هبوطا، ومصر لم تبارح معادلة البرود الاستراتيجي، وتمكنت من الحفاظ على ثوابتها بالنسبة للتعامل مع إسرائيل كخصم في الحسابات النهائية، ومصدر تهديد أصيل للدول العربية، ولم تتخل عن مسؤوليتها الفلسطينية التي تمس الأمن القومي المصري.

يبدو أن قواعد اللعبة مع إسرائيل مقبلة على تغيرات يمكن أن تحول السلام البارد بين البلدين إلى سلام دافئ في ظل تحولات كبيرة تشهدها المنطقة وقد تقوم فيها إسرائيل بدور مهم، سلما أو حربا، وفي الاقتصاد والسياسة، وتريد مصر أن تكون رقما رئيسيا في التوازنات الجارية التي ربما تتبلور معالمها قريبا، وهو ما يتطلب تخفيض مستوى التحديات الإقليمية والانخراط في قواعد جديدة لن تكون إسرائيل بعيدة عنها.

حرب غزة

القاهرة تتصرف كطرف محوري في القضية الفلسطينية لضبط بعض زواياها المختلة
القاهرة تتصرف كطرف محوري في القضية الفلسطينية لضبط بعض زواياها المختلة

دفع اتساع المساحة التي تتحرك فيها تل أبيب داخل المنطقة نحو إيران وسوريا تحديدا وتقديم حوافر أميركية للمتسابقين نحو التطبيع، بعض الدول العربية إلى توقيع اتفاقيات سلام معها في أواخر فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي لا تزال تؤيدها الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن حتى لو لم تتخذ خطوات في هذا المجال.

لم تكن مصر راضية عن هذا التوجه الذي اعتبرته يخل برؤيتها في إدارة الصراع والسلام مع إسرائيل، وارتاحت عندما حدثت الحرب على قطاع غزة، حيث أسقطت جملة من التقديرات التي جرى وضعها اعتمادا على تسريع وتيرة التطبيع وتوابعه، وبدأت القاهرة تتصرف كطرف محوري في القضية الفلسطينية لضبط بعض زواياها المختلة، ومنحتها واشنطن ضوءا أخضر وتمكنت من وقف إطلاق النار.

أعادت هذه الحرب ونتائجها تعديل جانب من التوجهات المصرية حيال إسرائيل، فقد بدت الأمور سهلة أمام القاهرة لتحقيق اختراق في القضية الفلسطينية استنادا إلى الإشارات الإيجابية التي وصلتها من الولايات المتحدة وبعض القوى الكبرى، غير أن الممارسات على الأرض فرملتها إسرائيل بحيل وألاعيب متعددة، بل وجدتها فرصة لتغيير ميزان العلاقة مع مصر وتحويل السلام معها من بارد إلى دافئ.

مع أن مصر ضاعفت من تسليح جيشها بأحدث المعدات العسكرية النوعية بما يبدو أنها مستعدة لأي مواجهة خشنة مع إسرائيل، غير أنها لا تريد إهدار هذه القوة في صراع مرير من هذا النوع، وتحاول

بدأت الملامح تتوالى مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة نيفتالي بينيت الذي يريد أن يطوي مرحلة سلفه بنيامين نتنياهو من خلال تطوير العلاقات مع مصر باعتبارها أول من فتحت الطريق أمام اتفاقيات السلام العربية والبوابة التي يمكن المرور منها لتأصيلها، وهي أيضا التي يمكن أن تسهم في توسيعها، لأن عملية القفز إلى الأمام التي قام بها نتنياهو عبر اختراقات مع دول عربية عدة قد تضر بالتطبيع ولا تعززه.

أدركت مصر أن تهميشها أو ابتعادها عن منظومة العلاقات التي تتشكل في المنطقة وفي القلب منها إعادة تعريف دور إسرائيل، سوف تؤدي تداعياتها إلى تحديات إقليمية كبيرة لها، في القضية الفلسطينية وإمكانية عرقلة دورها التاريخي وتحميلها تكلفة باهظة تؤثر على المشروع المصري الهادف إلى تقوية مفاصل الدولة على كثير من الجبهات الاستراتيجية في الداخل والخارج، ويتطلب درجة عالية من الاستقرار في علاقاتها الإقليمية وبينها تسكين الجبهة الإسرائيلية.

وكما تلعب مصر دورا مهما في ملف الغاز الذي يتبلور تدريجيا بشأن شرق البحر المتوسط، لدى إسرائيل أيضا ما يمكنها من أن تكون محورا فيه، وبدلا من أن تصبح جزءا سالبا رأت مصر ضرورة التفاهم معها على هذه القاعدة، ومن هنا جاءت اتفاقيات تصدير وتسييل الغاز الإسرائيلي في محطات مصرية وتصديره لأوروبا، والبحث عن المزيد من التفاهمات التي تعزز التعاون بينهما.

وقادت التفاهمات الأمنية في مجال مكافحة الإرهاب في سيناء وصمت إسرائيل على تغيير مصر لجانب من طبوغرافيا تمركز وحداتها العسكرية وخرق بنود اتفاقية السلام عمليا، إلى التمهيد لأسس جديدة للسلام الدافئ، فقد جاء قبول إسرائيل، قسرا أو رضاء، ليعزز قناعات مصر بضرورة البحث عن سياق جديد يمنحها القدرة على الوصول أمنيا إلى أقصى نقطة في حدودها مع إسرائيل، وهو ما يمنحها اطمئنانا بعدم حدوث غدر مفاجئ على الجبهة الشرقية.

تحديات إقليمية

خفض مستوى "التهديد الإرهابي في منتجعات شرم الشيخ" بجنوب سيناء درجتين، من المستوى رقم 1 إلى 3، لأول مرة منذ 17 عاما
خفض مستوى "التهديد الإرهابي في منتجعات شرم الشيخ" بجنوب سيناء درجتين، من المستوى رقم 1 إلى 3، لأول مرة منذ 17 عاما

للمزيد من التطمين، أعلنت هيئة الأمن القومي الإسرائيلية قبل أيام خفض مستوى “التهديد الإرهابي في منتجعات شرم الشيخ” بجنوب سيناء درجتين، من المستوى رقم 1 إلى 3، لأول مرة منذ 17 عاما، حيث يشير المستوى 1 إلى وجود تهديد ملموس كبير جدا مصحوبا بتوصية بتجنب الوصول ومغادرة المتواجدين فورا، ويشير المستوى 3 إلى تهديد أساسي مع توصية بتجنب الذهاب لشرم الشيخ وسيناء بشكل عام.

وأجرى وزير المخابرات الإسرائيلي إيلي كوهين في مايو الماضي محادثات مع القاهرة بمشاركة مسؤولين من هيئة الأمن القومي، وجهاز الأمن العام (الشاباك)، ووزارة المواصلات، بخصوص إمكانية تدشين خط طيران مباشر بين مطار غوريون الإسرائيلي وشرم الشيخ.

تدعم هذه المعطيات فكرة التغيير في خارطة السلام وتحويله من بارد إلى دافئ، خاصة أن الميراث المصري في الخطاب السياسي الذي كان يخشى من تطوير العلاقات مع إسرائيل بدأ يتراجع مع خفوت صوت المعارضة الداخلية التي أسهمت في تأجيج مخاوف الأنظمة المصرية المتعاقبة من التخلي عن السلام البارد، وكسر الكثير من الحواجز النفسية والسياسية بالنسبة للموقف العام من إسرائيل.

قواعد اللعبة مع إسرائيل مقبلة على تغيرات قد تحول السلام البارد بين البلدين إلى سلام دافئ في ظل تحولات المنطقة

وبدأ الصراع نفسه يفقد حدته مع تسابق بعض الدول العربية على التطبيع، وزيادة حدة الانقسامات الفلسطينية التي تقلل من إمكانية توفير لحمة وطنية تمكن مصر من المساعدة في الحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، في وقت أخذت إسرائيل تمد نفوذها في المنطقة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وتمدد علاقاتها بصورة لا تخدم الأمن القومي المصري بما يفوق العناصر التقليدية المباشرة الخاصة بموازين القوى العسكرية بينهما.

ومع أن مصر ضاعفت من تسليح جيشها بأحدث المعدات العسكرية النوعية بما يبدو أنها مستعدة لأي مواجهة خشنة مع إسرائيل، غير أنها لا تريد إهدار هذه القوة في صراع مرير من هذا النوع، وتحاول الحفاظ عليها كعنصر ردع، لأن التحديات لم تعد محصورة في جبهة إسرائيل، وبالتالي فتحويل السلام من بارد إلى دافئ معها يسمح بالتفرغ لمجابهة تهديدات وجودية مع دولة مثل إثيوبيا بسبب سد النهضة، أو تركيا جراء وجودها العسكري في ليبيا.

ولا يعني حدوث تحول في شكل العلاقة مع إسرائيل إهمال المخاطر التي يمكن أن تأتي منها، لكن على الأقل هناك حاجة للمزيد من التهدئة على هذه الجبهة تمكن مصر من القيام باستدارة إقليمية سلمية لضبط بعض التوازنات التي سوف تزداد تأثيرات إسرائيل فيها المرحلة المقبلة.

4