ملاعب كرة القدم مرتع لأحلام الأدباء المصريين وإلهامهم

عالم الرياضة شاسع تنسحب تأثيراته على كل المجالات السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، ومن بينها حركة الأدب المصري، حيث يبدي كتّاب مثل عماد أنور اهتماما بسرد حكايات عن الساحرة المستديرة وعلاقتها بالمجتمع المصري ورموزه في هذا المجال، وتأتي روايته "الجوهري في الزاوية الحمرا" كأحدث إصداراته التي استعاد فيها لحظة تاريخية للمنتخب المصري في بطولة كأس العالم لكرة القدم وتشابكها مع الواقع المجتمعي.
القاهرة - ينظر البعض إلى كرة القدم باعتبارها مجرد لهو، أو إلهاء، وهذا قد يكون صحيحًا بدرجةٍ ما، لكنها تظل تعبيرًا عن الأحلام، سواء في ما يتعلق بالحلم الفردي في بلوغ مراتب المجد بالنسبة إلى الموهوبين فيها أو الحلم الجمعي لمشجعين، يمنون النفس بإدراك لحظة سعادة بتحقيق فوز أو بطولة، لفريق يحبونه أو منتخب وطن ينتمون إليه. باختصار حلم الانتصار وإن يكن في لعبة.
وصدرت في القاهرة حديثًا رواية “الجوهري في الزاوية الحمرا (الحمراء)” للكاتب المصري عماد أنور عن دار العربي للنشر والتوزيع، وتسلط الضوء على لحظة تاريخية تتمثل في يوم إقامة مباراة منتخب مصر ضد نظيره الهولندي في بطولة كأس العالم لكرة القدم سنة 1990 في إيطاليا، التي تمكنت مصر من بلوغ منافساتها آنذاك بعد 56 عاما كاملة من الغياب.
دعوات وأمنيات
ترصد الرواية انعكاس إقامة المباراة على الناس في حي “الزاوية الحمراء” الشعبي بوسط القاهرة، واستعداداتهم لمشاهدتها وسط طقوس خاصة لكل منهم، مع الدعوات والأمنيات بألا تخرج المباراة بفضيحة لمنتخب مصر الذي أشارت توقعات قبل اللقاء وفقا للنتائج السابقة للفريقين إلى احتمال هزيمته بهدف مقابل ثمانية أهداف لصالح منتخب هولندا.
تسير الرواية وفق هذا الخط الرئيسي العام لتستعرض ملامح حياة البشر في الحي، من خلال قصة البطل خالد، وشهرته “ريكا” لأنه يشبه نجم الكرة الهولندي ريكارد، وهو الصبي ذو الخمسة عشر عاما، الموهوب في لعب كرة القدم، الحالم بالانتقال من فريقه الصغير “مركز شباب الزاوية الحمرا” إلى فريق أكبر من فرق الدوري الممتاز.
واستعان المؤلف بالأرشيف الصحفي، من خلال عمله صحافيا متخصصا في الشأن الرياضي، ليعرج من حين إلى آخر على استعدادات المنتخب المصري لخوض مباريات كأس العالم تحت قيادة المدرب الوطني الراحل محمود الجوهري، الذي يحمل عنوان الرواية اسمه، ما منح العمل الأدبي قدرة على إثارة مشاعر الحنين إلى زمن مضى، ولحظة محددة في عمر مصر وكرة القدم بها، تسمر خلالها المصريون أمام شاشات التلفزيون.
صدر للكاتب عماد أنور من قبل كتابان هما “محمد صلاح حكاية بطل” و”ركلات الجزاء والترجيح أشهرها وأغربها”، عن دار العربي للنشر والتوزيع في مصر. ويعمل أنور صحافيا في مجلة “الأهرام العربي”.
يقول أنور إنه عمل مع الناشر شريف بكر مدير دار العربي للنشر لخلع عباءة الكتابة الصحفية، وما تستلزمه من جمل قصيرة، مباشرة، والانتقال إلى عالم الكتابة الروائية الأكثر رحابة وتحليقا في سماء المعاني والمفردات، بالرغم من أن فكرة الرواية كانت بداخله منذ سنوات، قبل صدور كتابيه السابقين، ودوَّن الكثير مما بها من مواقف وشخصيات، إلا أن الكاتب تردد كثيرًا في التعامل معها كعمل روائي حتى صدرت بالفعل.
يقدم عماد أنور مسحة عامة لمجتمع الحي الشعبي الشهير من خلال شخصيات روايته التي أجاد رسم ملامحها فجاءت طبيعية تماما، وحقيقية، يشعر القارئ بأنه التقاها من قبل أو أنه يمكن ببساطة أن يلتقيها، ويتنقل الكاتب عبر الزمن بين الماضي والحاضر لنعرف تاريخ كل شخصية وأحلامها المجهضة، ما أسهم في تحولاتها وتشكيل صورة واقعها.
البطل الشاب الصغير خالد / ريكا المفتون بكرة القدم، تزين غرفته صور نجومها المصريين والعالميين في ذلك الوقت؛ محمود الخطيب وجمال عبدالحميد وحسن شحاتة وفاروق جعفر، فضلا عن بيليه ومارادونا، وهو يتبادل الكرة مع صورهم على الحائط برأسه، ويحدثهم حالمًا بأن يكون مثلهم يومًا، إلا أن والده الموظف تسيطر عليه النظرة التقليدية آنذاك فينهى ابنه عن لعب الكرة كي يركز على دروسه، قبل أن تجتاح حمى محمد صلاح البيوت المصرية ويسكنها الحلم بفعل تجربته بعد نحو ربع قرن.
◙ روح المناطق الشعبية المصرية الأصيلة كانت هي المسيطرة أثناء مونديال 1990 وقبله، وهذا ما حاولت نقله بدقة
يمكنك أن تقود الفتى ريكا إلى أي مكان تريده، وإن يكن وراء الشمس، بمجرد أن تقول له إن هناك مباراة ستقام في ساحة ما وإنه مدعو للمشاركة فيها. وهذا ما وقع بالفعل ضمن أحداث الرواية، إذ استغل أسامة، أحد المنتمين إلى الجماعات الإسلامية النشطة في عقد التسعينات من القرن الماضي في مصر، محبة الصبي لكرة القدم وخجله وأخلاقه لضمه إلى هذه الجماعات.
استخدم عماد أنور هذا المدخل الفني في الرواية ليعود بزمنها تسع سنوات إلى الوراء، وبالتحديد عام 1981، الذي شهد ما يعرف بـ”أحداث الزاوية الحمرا”، وهي فتنة طائفية قام خلالها أفراد الجماعات الإسلامية بإحراق متاجر الذهب التي يمتلكها مسيحيون بعد الاستيلاء على محتوياتها.
تكشف الرواية رد الفعل الشعبي داخل الحي المصري العريق ضد أفراد هذه الجماعات ولفظهم وعدم الانزلاق إلى أفكارهم، ومواجهتهم والعمل على صون ممتلكات المسيحيين وحمايتهم، إلا أن بقايا الأثر الممتد لأفكار هذه الجماعات ظلت قابعة في الخفاء داخل نفوس البعض.
يقول عماد أنور لـ”العرب” إن روح المناطق الشعبية المصرية الأصيلة كانت هي المسيطرة في ذلك الزمن، وقت بطولة كأس العالم لكرة القدم 1990 وقبلها، فالبيوت كلها مفتوحة على بعضها البعض، ومشاركة الاحتفالات بين الجيران حتمية، وهذا ما حاول أن ينقله بدقة في روايته.
ولا ينفي الكاتب أن الأمور اختلفت عن الماضي، ولم تبق على حالها، إلا أن هناك من الناس من يحتفظون بأخلاقياتهم ويحرصون على تربية الأبناء في هذا العصر على نفس منظومة القيم، معتبرا أن هذا هو الأمل في بقاء الروح الشعبية الأصيلة وامتدادها من جيل إلى جيل رغم تحولات الزمن.
حلم القيادة
لا تقتصر الأحلام في رواية “الجوهري في الزاوية الحمرا” على البطل ريكا وحده، فهناك أيضا مدربه في مركز الشباب سعيد، وشهرته “القطر” (القطار)، ويرجع سبب التسمية إلى عشقه القديم منذ الصغر في قريته للقطارات وسائقيها، وحلمه بأن يكون أحد قائدي القطارات، قبل أن يتحول إلى كرة القدم وحلم التفوق فيها.
ما الذي يمكن أن يدفع شابا صغيرا مثل سعيد إلى الهوس بسائقي القطارات إلى درجة إلقاء السلام عليهم من شرفة بيته في القرية عندما يمر القطار أمامه بسرعة فائقة دون أن يلاحظ السائق أصلا وجود شخص ما يخاطبه عن بعد قائلا “طريق السلامة يا ملك.. في حفظ الله يا عم الناس؟”
إنه الحلم.. الحلم بأن يكون الشاب مثل هذا السائق “ملكا”، أن يصير قائدا في عربة تقود عددا كبيرًا من العربات في الخلف. إنه حلم الاتساق مع الذات، والتوحد معها وأمانيها، بالبقاء داخل عربة صغيرة لفترة طويلة تمتد إلى ساعات، هي ساعات السفر بين المحافظات.
الحلم لم يتحقق لـ”سعيد القطر”، كما لم يتحقق حلمه الآخر فيما بعد عندما بدأ ممارسة كرة القدم. كان على وشك الانتقال من ناديه الصغير إلى أحد أندية الدوري الممتاز في الموسم الجديد، ليبدأ مشوار الشهرة والنجومية، حتى وقعت الواقعة.
فقد أعصابه في آخر مباراة له مع فريقه الصغير قبل مغادرته، فاعتدى على حكم اللقاء والمنافسين، ليتم طرده من الملعب، مرتع حلمه، وتدور مشاجرة أشبه بـ”خناقة شوارع”، وتكتب عنه بعدها صحيفة مسائية تخصصت في إفراد مساحات لتغطية دوري الدرجة الثانية واصفة إياه بـ”بلطجي الدوري”.
تم إيقاف سعيد عن ممارسة كرة القدم لعامين. انهار حلمه أمام عينه في لحظة رعونة. وعندما التحق بالعمل بعدها في شركة الكهرباء كان يمكن له الانضمام إلى فريق الكرة بها لكن نفسه كانت قد عافت الكرة والحلم معًا.
أقصى ما أمكنه هو العمل مدربا في مراكز الشباب الصغيرة، والحصول على عمولات من بيع اللاعبين إلى الفرق الأكبر، إلا أن رعونته قادته إلى حلم جديد، عجيب، متخيلا أنه يمكن أن يتحقق، وهو أن يرسل خطابا إلى نجم الكرة الهولندي ريكارد باللغة العربية يدعوه فيه إلى تبني لاعبه الموهوب في الفريق خالد/ ريكا لأنه يشبهه، عارضًا عليه فكرة إقامة أكاديمية تضم اللاعبين الذين يشبهونه في العالم.
لا تنفصل منظومة الكرة عن باقي المنظومات في المجتمع، إنما ترتبط بالسياسة والاقتصاد والثقافة ومستوى الوعي العام، ولهذا يلجأ لاعبو السياسة/ المسؤولون أحيانا إلى الكرة لاستعادة شعبيتهم الغائبة.
يعترف الكاتب عماد أنور في ندوة أقيمت بمكتبة مصر العامة في حي الزاوية الحمرا، وقدمها المنسق الثقافي مصطفى الطيب، بأن الجيل الجديد من صغار الشباب ربما لا يعرف الكثيرون فيه من الأصل من يكون محمود الجوهري المدير الفني التاريخي لمنتخب مصر، إلا أنه سعى بروايته إلى إثارة مشاعر الحنين إلى عصر مضى، ولحظات لا تنسى مع المساهمة في تعريف الشباب ممن لم يكونوا قد ولدوا آنذاك بتفاصيل وأسرار الروح الخفية التي سرت بين المصريين في تلك الفترة.
حصل ريكا أخيرًا على فرصة لبدء التدريب في ناد كبير هو نادي “المقاولون العرب”. طار بالطبع فرحًا لذلك، وإن كانت فترة اضطراب أفكاره واقترابه من الجماعات الإسلامية قد عطلته قليلًا لاسيما عندما بدأ الظن في أن “الكرة حرام”، لكنه عاد وانضبطت بوصلته.
لدى ريكا حبيبة شابة من جيرانه، برع الكاتب في تصوير علاقة حبهما وحرص الشاب على أن يشاركها مشاعر الفرح بإخبارها بالتحاقه بالنادي الكبير، من خلال حيلة افتعلها كي يذهب بنفسه إلى بيتها رغم صعوبة ذلك. كنا نتمنى فقط أن تظهر شخصية الفتاة مبكرا ضمن أحداث الرواية وأن تكون لها مساحة أكبر، لأن اختيار اسمها جاء عامرًا بالدلالة “أمل”.
دخان ونيران
كل شيء كان جاهزا ومعدا في البيوت، للاستمتاع بمشاهدة مباراة مصر وهولندا التي ستبدأ بعد قليل، بما في ذلك سطح بيت والد ريكا الذي بدأ الاهتمام بالكرة عموما وبمشوار ابنه فيها. أصدقاء الأب مجتمعون، وتم ضبط إرسال التلفزيون، وها هو النشيد الوطني المصري يُعزف. سعيد القطر لم ينجح في الحصول على إجازة من مناوبته في شركة الكهرباء لمراقبة وضبط الأحمال بدقة فقرر مشاهدة المباراة في مقر عمله.
الكل يتابع سير المباراة بتركيز وشغف، ورغم الهدف المباغت الذي سكن مرمى أحمد شوبير حارس المنتخب المصري إلا أن الجميع يتمسك بالأمل، بعد المستوى الرائع الذي ظهر به اللاعبون خلافا لكل التوقعات. وبالفعل تم احتساب ضربة جزاء لنجم المنتخب حسام حسن، تصدى لها اللاعب مجدي عبدالغني.
رواية تستعيد حدثا تاريخيا هو مباراة منتخب مصر ضد نظيره الهولندي في بطولة كأس العالم لكرة القدم 1990
في عام 2025 نعرف أنه تم تسجيل الضربة وخرجت المباراة التاريخية بالتعادل بهدف لمثله ما أسعد جموع المصريين وأخرجهم إلى الشوارع محتفلين، لكن رواية “الجوهري في الزاوية الحمرا” تختار أن تتوقف بعدسة الراوي العليم عند لقطة محددة.
الكل في انتظار تنفيذ ضربة الجزاء. الأعين لا ترمش بعيدا عن الشاشات. وربما لذلك لم ينتبه سعيد القطر المناوب في مركز المراقبة بمحطة الكهرباء إلى انتشار الدخان واشتعال النيران في إحدى المحولات بفعل ارتفاع الأحمال. ولذلك تنتهي الرواية بـ”قبل أن يسدد اللاعب انقطعت الكهرباء عن المنطقة وعمَّ الظلام المكان.”
نهاية موحية، تصدمك لكنها تدفعك إلى الابتسام والشجن، تقودك إلى التأمل، ليس في كرة القدم، إنما بالنظر إلى ما هو أبعد، إلا أن حلم ريكا في الالتحاق بناد أكبر يظل خيطًا ممتدًّا في الرواية، لم يُقطع، ويبقى الباب مفتوحًا على الأحلام، لم يُغلق، ونعرف أن الحلم فردي، أما المنظومات التي تكافح بصعوبة دون خطة أو إمكانيات فإنها قد تنجح مرة أو مرات، لكنها غالبًا ما تصل إلى النهاية المحتومة؛ أن يعم الظلام المكان.