مقال مقطوع اللسان

تخذل اللغة أصحابها إذا ضاقت بهم الكلمات. والمرء، في موروثنا الأدبي، بأصغريه: قلبه ولسانه. بهما يُعتَبَر، ويضبط أموره؛ بمقدوره أن ينطق ببيان فيعلو فوق الحياة ويتشفّف، أو يختار طريقا آخر فتهزمه اللغة، والذاكرة لا تغفر.
فُجعت اللغة هذه المرّة بضيق الرؤية والعبارة معا، وأستأذن النّفري في مقولته البليغة “إن اتّسعت الرؤية، ضاقت العبارة”، على الرّغم من اتّساع القلوب لحبّ جمّ وتقدير عميق لسيّدة المسارح وملاك الذاكرة اللبنانية ماجدة الرّومي. لن أكرّر ما جاء في عنوان مقال الزميلة لبنى الحرباوي ماجدة وفجيعة “المينوبوز” الأربعاء 1 أغسطس 2018، ومحمولاته، فللقارئ أن يعود إليه، لكن، ليس هكذا تُطلق العناوين على عنوان الفن الرّفيع. فرفقا بذائقتنا الأدبيّة، ورأفة باعتزازنا الفنّي!
والعنوان عتبة، أو نصّ موازٍ للنصّ. كما يُعرّف بأنه المسند والمتن هو المسند إليه. فأسند إلى تقدّم ماجدة الرومي في السّن وصف “فجيعة”. يلمّح العنوان إلى استنكار ما جاء في المتن، بسخرية مبطّنة انقلبت على ذاتها. وعتبي على محاولة تثبيت كلام منقول، مع ما يحمله هذا الكلام من قبح وإساءة مقصودة أو غير متعمّدة، في الذاكرة من طريق التكرار، على طريقة “من لم يسمع فلينتبه”؛ وتوسّل الحدث نفسه أو اتّخاذه مطيّة للعبور نحو المعجم وإساءاته للمرأة ربطا بحالة نفسيّة مرافقة لمرحلة عمريّة، زرع تاريخ القهر الاجتماعي واللغوي توصيفاتها في عقولنا. وكم يرتكب التاريخ افتراءات، فنصدقها!
سنردّ التاريخ على عقبيه، ونترنّم مع ناظم الغزالي:
عيّرتني بالشّيب وهو وقار ليتها عيّرت بما هو عارُ
إن تكن شابت الذّوائب منّي فالليالي تزيّنها الأقمارُ
في الواحد من شهر أغسطس، عيد الجيش اللبناني. والمقطوعة التي تتردّد في المعزوفات لهذه المناسبة بما يشبه الثبات واللزوم، هي أنشودة “راجع يتعمّر لبنان”. إكرام الوطن واجب، وتكريم الوطن للنبيل وفاء. أذكر بمناسبة هذا القول، أنّ أول مقال ينشر لي في مجلة “العربي الصغير” كان عنوانه “حديقة النحّاتين”. غير أنّي أرسلت المقال بعنوان “سيمبوزيوم عاليه”؛ فتمّ تعديل العنوان إكراما للغة، واعترافا بقدرتها على استيعاب المستحدثات وسكّ المصطلحات والمسمّيات في أيّ زمن. ومن الصور التي أرفقتها للمنحوتات، نشرت صورة منحوتة ماجدة الرّومي لتزيّن المقال. من الأحداث ما لا يُنسى، ومن الصور اللغويّة والإشاريّة ما لا يسقط من الذاكرة.
لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين. واللسان العربي استعار لسان “الحيّة” ليلدغ المرأة مرارا وتكرارا، لكنّه لن يرميها بالضربة “القاضية”، ولن تصيبها “نائبة”، فتسقط في “الهاوية”. كلمات أربع إذا أُنّثت تستقبح في دلالاتها، وهي ما وضعته بين مزدوجين في الجملة، فضلا عن مرادف النائبة، أي “المصيبة”. يشهد الزمن على إيمان المرأة بأفق الآتي من الأيّام، وبما ستولّده اللغة؛ فاللغة أنثى.
العلاقة الجدليّة المربّعة الأطراف بين اللسان والقلب، والعقل والجهل، جاء ذكرها في قول الحسن البصري “لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام؛ تفكّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك. وقلب الجاهل من وراء لسانه، فإن همّ بالكلام؛ تكلّم له وعليه”.
قالت العرب: البلاغة في الإيجاز، والبلاغة تقتضي الفصاحة. كتاباتنا وجوهنا، تتبدّى اختزالا بغير إيجاز، وعجزًا من دون إنجاز. فليست لغتنا العربيّة مدينة لنا باعتذار وحسب، إنّما كلّ من يسيء استخدامها بغير دراية.