مقال أخير عن دروب القردة

"الكتابة" مكابدة دائمة، مهما تكن مهارة الكاتب وخبرته بالدروب، ففي كل مرة تتجدد المشقة ومعاناة البحث عن التجويد.
الجمعة 2019/02/22
سطوة المال الثقافي أربكت المشهد (لوحة: إيمان شقاق)

شغلت “الكتابة” ثلاثة مقالات ظننتها كافية؛ لانطلاقها مباشرة “في” منطقة الإبداع، ولكن أصدقاء اقترحوا مقالا آخر على هامش الكتابة، “عن” الكتابة وليس “في” الكتابة. وأعلم أن كتابة المقالات لا تخضع لما يطلبه القارئ، فهل أيقظ هذا الاقتراح في نفسي هوى؟ ربما أعفاني من حرج يمنعني دائما أن أنتقد كتابات متواضعة، أسوة بأساتذة لم يسمحوا لأنفسهم بتعليق سلبي على أعمال في مجال انشغالهم الإبداعي.

وما يجذب الانتباه أن أحدا، منذ صدر الإسلام، لم يجرؤ على الادعاء بانتمائه إلى سلالة النابغة الذبياني، فيفاجئ الناس بضخ أعمال غزيرة، بعد خمسة عقود لم ينتسب فيها إلى “الكتابة”. ولكل موهبة إبداعية مقدمات ومؤشرات دالة على وعد ينشد الاكتمال. ولكن سطوة المال الثقافي أربكت المشهد، وكان المال السياسي رائدا في تشويه استحقاقات برلمانية ورئاسية، وظننا للثقافة عصمة، لولا أن أفسدت الشواهد حسن ظني.

وفرة الصحة، بعد سن الخمسين، ظاهرة عربية. هناك كليشيهات كتابية أشبعتها الأجيال مضغا، ومن الحكمة تجنبها؛ فالإصرار عليها يوحي إلى القارئ بغفلة “مستخدمين” كسالى يظنون أن لفظا أو تعبيرا أنزل الآن من السماء، فيسارعون إلى اقتناصه، ويعيدون مضغ الغنيمة وابتذالها، مثل فعل “دلف” الذي سخر يحيى حقي قبل ستين عاما من البذخ في استخدامه إلى درجة الضجر. وفي عام 2006 “دلف” أحدهم برواية ظننتها آنذاك تزجية للفراغ، ربما طمعا في نيل لقب “روائي”، وأكتفي من صفحاتها الأولى بهذه الكلمات: “العمارات الثلاثة”، “الغرف الثلاثة”، “على كتفيها العاريين.. كتفيها، البضّين، البيضاوين، المنحدرين بانسياب… الممتدين بلون سحاب الصيف”، “شمس الكتف البديع المنساب إلى دفء الإبط”، “غاص في حيرته”، “اشتد غوصه في حيرته”، “غاص ثانية في حيرته”.

أرفض الكهنوت الثقافي، وليست “الكتابة” كهانة تورث أسرارها إلى دائرة أعضاؤها كهنة، وأقصى ما يطمح إليه المبدع الحقيقي أن ينضم إلى “نادي فن القول”

لقب “روائي” فسر ما لم يسمح لي الزمن بلوم الدكتور عبدالوهاب المسيري عليه. في يونيو 2006 اتصلت به من تونس، لأبلغه وأهنئه بفوزه بجائزة القدس. وسألني: يا ترى فيها فلوس؟ وضحكنا. ثم دعاني إلى بيته، وعرفني بكاتب انتهى من “كتاب لطيف”، مسح اجتماعي للقاهرة من نافذة سيارة. كان الكتاب الأول لمؤلفه، ولعب المال الثقافي دورا في إنعاش البضاعة. وللمال الثقافي سحر لدى دول ومؤسسات رسمية ودور نشر خاصة، وحشد ناشر الكتاب اللطيف كاميرات برامج فضائية ازدحمت بأطقم مصوريها ندوة في معرض القاهرة للكتاب. وفي صخب شعبوي يمثله المعرض فإن الزحام يجلب زحاما، ويليه رواج أضاف إلى غلاف الطبعات التالية صفة “رواية”، ومنح الكاتب لقب “روائي”.

في محاولات القرود الأولى للصعود، تستغرق ساعات في اكتشاف مفردات المسرح، ومراكمة مهملات تتخذها سلما. وفي المرة الثانية تختصر الوقت، وترصّ الكراكيب وتنظمها، وتصطنع جسرا تحتفظ به للقفز مباشرة في المرات التالية. ولكن “الكتابة” مكابدة دائمة، مهما تكن مهارة الكاتب وخبرته بالدروب، ففي كل مرة تتجدد المشقة ومعاناة البحث عن التجويد. ولا يغرّنك الذي استمرأ الأمر، واستهوته شياطين المال الثقافي بإكراهاته وإغراءاته وقدرته على اصطناع نجوم محمولين جوا، بحقائبهم وقبعاتهم ونظاراتهم وابتساماتهم من عاصمة إلى أخرى، يتبادلون المقاعد بين الفوز بجائزة، وعضوية لجنة التحكيم، وإلقاء شهادة، وإدارة ندوة، فهم الفائزون المحكمون المدرّبون المديرون المكرمون.

أرفض الكهنوت الثقافي، وليست “الكتابة” كهانة تورث أسرارها إلى دائرة أعضاؤها كهنة، وأقصى ما يطمح إليه المبدع الحقيقي أن ينضم إلى “نادي فن القول” كما قال يحيى حقي. ذلك النادي الذي تنتهك قدسيته؛ لعدم وجود شيخ حارة، قاض نزيه، ينهى البعض عن الإساءة إلى جلال “الكتابة”، وينصحهم بامتهان عمل أكثر فائدة. والله أعلم.

14