مقاطعات..

جاري “سي المنجي”، الموظف الخمسيني ذو البدلة الرمادية المهترئة، وصلته للتو، على هاتفه النقال قائمة طويلة من المنتجات والشركات التي عليه مقاطعتها في خضم الحرب على غزّة.
كانت القائمة أشبه بوصفة أدوية غريبة التسميات، فكيف له أن يقاطع منتجات لا يعرفها، ولم يقتنها لأسرته الفقيرة من قبل؟ ما حيلته مع هذه القائمة الغريبة من ماركات الثياب الفخمة وأنواع المعلبات الفاخرة والفواكه النادرة والمشروبات والتبوغ ومستحضرات التجميل العجيبة، وهو الذي اعتاد، وبالكاد، أن يسد الرمق؟
والأدهى من ذلك أن المراسلة التي وصلته على جهاز هاتفه المتواضع البسيط، دعته إلى مقاطعة مؤسسات عملاقة في صناعة السيارات والمقتنيات الإلكترونية، بالإضافة إلى ضرورة الاستغناء عن خدمات شركات ومجموعات سياحية عابرة للقارات.
حمد “سي المنجي” ربه في سره أن لا علاقة له ولا قدرة أصلا، على التعامل مع محتويات هذه القائمة، لكنه أصر على حفظ بعض التسميات التجارية تحسبا لكل طارئ.. لعلّ وعسى.
فعل مثله أصدقاؤه في المقهى، وبدؤوا بالتفاخر أنهم لم يعودوا يُدخلون إلى مطابخهم شتى أنواع سمك السلامون ومعلبات الكافيار، ولا حتى أصناف الويسكي في ساعات الصفاء والاسترخاء.
واعتدّ “سي المنجي” بمشيته داخل بدلته الرمادية وحذائه المهترئ قائلا إنه يفخر بالصناعات الوطنية، وحتى من عربات الملابس المستعملة أسوة بأبناء شعبه، وتعاطفا مع قضايا الأمة التي يتهددها مصاصو الدماء.
شاطره الرأي رفاقه الفقراء في المقهى، وطفقوا يثنون على الإنتاج المحلي وضرورة مقاطعة البضائع الأجنبية التي تصب أرباحها في مصالح الأعداء، إلى درجة أنّ أحدهم دهس جهاز موبايله وسحقه تحت قدمه في غمرة حماسته وتنديده بالمؤامرات التي تحاك ضدنا.
بادر الحضور إلى السير على خطاه والاقتداء بسلوكه الوطني الغيور فتحسس كل منهم ثيابه ومقتنياته الشخصية والمنزلية فإذا ما وجد فيها قطعة أجنبية واحدة، ولو من البالة والمشتريات المستعملة، بادر إلى إتلافها فورا، وبحماس شديد.
وهكذا ضبطت الحرب إيقاع الناس وعدلت من عاداتهم اليومية وسلوكياتهم في المأكل والمشرب والملبس، كما جعلتهم يتحدون ويتعاطفون مع بعضهم بعضا، على الرغم من المزاج المتجهم العام الذي خلّفته مشاهد القتل والدمار.
صارت القناعة والرضى بالممكن والمتاح سلوكا يوميا أمام ما تعرضه الشاشات من فاقة وفقر، وحاجة فرضتها ظروف الحصار التي يعيشها أهالي غزة.
وتستمر حالة هذا التضامن الاجتماعي المحمود دون تذمّر أو تشكّ، فمن رأى هموم الآخرين هانت عليه همومه، لكن هذا التعاطف ولّد حالة من الكسل والاستهتار بالواجب اليومي بلغت ذروتها حين صار كل تقصير يُسجل في خانة “التضامن مع القضية”.
وبالتذرع مع القضية، لم يعد “سي المنجي” يؤدي وظيفته الإدارية على أحسن وجه، وكذلك أهمل أبناؤه واجباتهم المدرسية، وقصّرت زوجته في مهامها المنزلية.. زيادة على رداءة وشطط أسعار كل منتج وطني ومستعمل، و”بعيد عن الشبهات”.