مفاتيح الوجود الجزائري في أفريقيا

الجزائر التي كانت في ستينات القرن الماضي مدرسة تستلهم منها الدروس والقيم لم تعد كذلك لأن هناك أجيالا ونخبا أفريقية جديدة تفكر في المستقبل ببراغماتية ومصالح متبادلة، فزمن عقيدة التحرر والكولونيالية قد ولّى.
السبت 2023/06/10
الرئيس عبدالمجيد تبون لم يزر ولا دولة أفريقية منذ انتخابه في 2019

يتراكم الخطاب السياسي في الجزائر منذ عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة عن تركيز الوجود الجزائري في القارة السمراء، باعتبارها انتماء ومصالح وعمقا إستراتيجيا، لكن غياب النقاش الحقيقي فتح المجال أمام تصور السلطة وغيّب العديد من الأسئلة، عن أسباب الغياب والكيفية والفاتورة والنتائج المنتظرة.

إلى حد الآن لم يقدم القائمون على الشأن الدبلوماسي والسياسي الأهداف الحقيقية من الوجود المنشود والقدرة على منافسة “التواجدات” الأخرى، فأفريقيا منذ سنوات هي قبلة للقوى الدولية الفاعلة، فهناك الفرنسيون والأميركان والصينيون واليابانيون والروس وحتى الأتراك، والكل ينفق من أجل موطئ نفوذ في القارة.

في إحدى الندوات الاقتصادية الأفريقية التي انتظمت منذ سنوات في الجزائر، لفت أحد الخبراء الكاميرونيين، إلى أن “منطقة شمال القارة تسبب تراجعا كبيرا في نسبة الاندماج والتبادل الأفريقي – الأفريقي”، وهي رسالة واضحة على انزعاج الأفارقة من الوضع السياسي في المنطقة الذي ألقى بظلاله على الشأن الاقتصادي وقلل من حظوظ تحقيق أرقام متقدمة، وهو أول تحد يحتم على الجزائر إيجاد بيئة سياسية مساعدة مهما كانت الخلافات.

◙ الخطاب الجزائري يتحدث عن أفريقيا بمنطق السوق الاستهلاكية التي يتعلم فيها الجزائريون فنون التصدير، لكن الأمر ليس كذلك فهناك الصينيون واليابانيون والأتراك والروس والأميركان والمستهلك الأفريقي أمامه حرية الاختيار بين المنتوجات

كما أن تصريح الخبير الأفريقي، يوحي بأن التوازنات داخل الخارطة الأفريقية تغيرت كثيرا، فالجزائر التي كانت في ستينات القرن الماضي مدرسة تستلهم منها الدروس والقيم، لم تعد كذلك، لأن هناك أجيالا ونخبا أفريقية جديدة تفكر في المستقبل ببراغماتية ومصالح متبادلة، وزمن عقيدة التحرر والكولونيالية قد صار من الماضي.

لكن على ما يبدو خطاب السلطة الجزائرية، لاسيما في طبعتها المتجددة، لا يزال تحت تأثير العقيدة السياسية والأيديولوجية القديمة، فهي تريد في كل مرة دغدغة المشاعر الأفريقية بخطابات زعماء التحرر، بينما يغيب عنها أن طموح النخب السمراء هو تحقيق نهضة في بلدانها بدأت تتكرس بتحقيق أرقام تنموية معتبرة.

في تصريح لرئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى في قمة أفريقية، ذكر أن “بلاده لا تستعمل مكبر الصوت لما يتعلق بالقارة الأفريقية”، في إشارة إلى مساهمتها المالية واللوجيستية والاستخباراتية آنذاك، في الحرب المشتركة ضد الإرهاب.

وعندما سئل عن قرار الرئيس الراحل بمسح أكثر من مليار دولار كديون لدى بعض الدول الأفريقية قال إن “الجزائر لا تمنّ على أفريقيا”، ورد زميله عبدالمالك سلال، في الندوة الاقتصادية المذكورة بأن بلاده “لم تخرج من أفريقيا حتى نقول إنها ستعود (إليها)”.

واللافت في المسألة، أن الخطاب والممارسة لا زالا يتصرفان بعيدا عن منطق البراغماتية والمصالح، ولا يهمهما إلا صدى السخاء والعيش على شعارات الماضي، ولم يدرك النظام بعد أن أفريقيا تغيرت، وإلا لكان قد سأل نفسه عن حصيلة الإنفاق لأغراض غير إنسانية، ولعل أكبر رد كان العام 2017، عندما صوت الأفارقة بمن فيهم الدول التي مسحت لهم الديون لصالح ملف الغابون، على حساب ملف الجزائر لتنظيم كأس أفريقيا لكرة القدم.

لا يختلف اثنان على أن الجزائر تملك مقومات كبيرة لكسب موقع ريادي في القارة السمراء، لكن خطاب تعزيز الوجود لا يملك النسخة الحقيقية للمفتاح الذي يفتح لها أبواب القارة السمراء، وأبرز تلك المفاتيح هو استغلال الموقع الجيوإستراتيجي لتكون بوابة القارة في الدخول إليها أو الخروج منها، وتحديد الأهداف بدقة، فالممارسات “الحاتمية” لا تجدي نفعا ولا بد من جرد الحساب.

العديد من القوى توجد في أفريقيا، ولكل وجود ظروفه ودواعيه. لكن القارة التي عانت من الاستعمار ومن الفقر والتخلف تجيد الآن لعبة التوازنات والمصالح، وتعرف من يريد إبقاءها تابعة له ومن يريد منافع مشتركة معها، وعلى الجزائر أن تقدم نفسها في ثوب الأفريقي الذي يريد النهوض بأفريقيا، وليس من يريد تحالفات وعائدات آنية.

لقد انتكس الوجود الفرنسي في أفريقيا لأنه لم يتخلص من عباءة المستعمر القديم والوصي الحديث، ولذلك يطرد تدريجيا من الربوع الأفريقية، وفوق ذلك تمتد الثورة الشعبية من عاصمة إلى أخرى، ونفس المصير سيؤول إليه التغلغل الروسي رغم أنه يمثل الآن المخلص الفعلي من الفرنسيين، لأنه يعتمد في تمدده على القوة العسكرية وعلى استغلال الثروات، فقوات “فاغنر” تقبض الآن تعويضاتها من مناجم الذهب في مالي.

◙ خطاب السلطة الجزائرية، لاسيما في طبعتها المتجددة، لا يزال تحت تأثير العقيدة السياسية والأيديولوجية القديمة، فهي تريد في كل مرة دغدغة المشاعر الأفريقية بخطابات زعماء التحرر، بينما يغيب عنها أن طموح النخب السمراء هو تحقيق نهضة في بلدانها

الصينيون واليابانيون وحتى الأتراك وبشكل أقل الأميركان، هم الذين يوظفون القوة الناعمة في التغلغل داخل أفريقيا، فالتركيز قائم على التنمية والاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا، وليس على الأغراض السياسية والتحالفات الإستراتيجية التي جلبت الويلات لأفريقيا، وهو ما يبدو غامضا إلى حد الآن في الخطاب الجزائري بشأن هذه المسألة.

صحيح هناك مساهمة جزائرية في مشاريع طموحة لتعزيز الاندماج داخل أفريقيا، فهناك طريق تيندوف – الزويرات، والطريق العابر للصحراء، وخط شبكة الألياف البصرية، وأنبوب الغاز نيجيريا – أوروبا مرورا على أراضيها، وهناك دعم لمحاربة الإرهاب في الساحل، لكن هناك في المقابل نقاط ظل في إستراتيجية الوجود، أبرزها تدويل بؤر التوتر الأفريقية بدل أفرقتها، فالساحل هو ساحة صراع دولي، وليبيا هي ملعب كبير للقوى الإقليمية والدولية، وهنا يبدأ التحدي الكبير للجزائر في تحقيق وجود حقيقي داخل القارة.

الجزائر تأخرت كثيرا في تدارك الفراغ الذي تركته على مر العقود الأخيرة بمبررات موضوعية وغير موضوعية، وإن وضعت الآن البعد الأفريقي في صدارة اهتماماتها، فإن جهودا مضنية وتصورات حقيقية تنتظرها، فمن يعتقد أن المليار دولار الذي خصصته للاستثمار في أفريقيا كاف لتحقيق المبتغى هو واهم، لأن المشوار يبدأ بتصور دقيق، فأفريقيا الآن تحتاج إلى استثمارات حقيقية بأموال ضخمة، وليس صدقات لبناء خزان ماء أو مستوصف أو مدرسة في منطقة نائية.

الخطاب الجزائري يتحدث عن أفريقيا بمنطق السوق الاستهلاكية التي يتعلم فيها الجزائريون فنون التصدير، لكن الأمر ليس كذلك فهناك الصينيون واليابانيون والأتراك والروس والأميركان، والمستهلك الأفريقي أمامه حرية الاختيار بين المنتوجات والبضائع، والأجدر بصاحب الخطاب أن يراجع أوراقه بعدم تكرار أخطاء الماضي، وأولها أن الرئيس عبدالمجيد تبون لم يزر ولا دولة أفريقية إلى حد الآن منذ انتخابه في 2019، ولا أحد يريد تكرار خطأ بوتفليقة، الذي زار باريس سبع مرات، ولم يزر أفريقيا إلا نادرا طيلة عقدين من الزمن.

8