مفاتيح الأبواب الموصدة بين بغداد وأنقرة

قد لا يختلف اثنان في أنه لم يكن متوقعا أن تحدث زيارة السوداني إلى تركيا تحولات كبرى بيد أن المتفق عليه هو أنها ربما شكلت منعطفا في المسار المتعثر للعلاقات العراقية – التركية .
السبت 2023/04/08
ملفات خلافية شائكة

على امتداد عقدين من الزمن، كانت لغة التصعيد والتأزيم بين العراق وتركيا هي السائدة والمهيمنة على مجمل مسيرة العلاقات بين البلدين المحكومة بالعديد من العقد والإشكاليات التاريخية التي يمتد بعض جذورها إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، وما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج ومعطيات ومخرجات، جعلت العراق يتحول من سطوة الباب العالي في إسطنبول إلى سطوة الإنجليز في لندن!

ربما يرى الكثيرون أن الملفات الخلافية الشائكة والمتداخلة بين بغداد وأنقرة ترتبط بشكل أو بآخر بأحداث ووقائع سياسية جديدة بعيدة كل البعد عن أحداث ووقائع الماضي. وقد يبدو ذلك صحيحا وواقعيا بالنسبة إلى ملفات من قبيل ملف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK) الذي ظهر على مسرح الأحداث في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وملف المياه الذي بات يشكل هاجسا يؤرق مختلف أطراف المجتمع الدولي منذ حوالي نصف قرن، لاسيما مع بروز واستفحال عوامل التغير المناخي، والقراءات الاستشرافية المتشائمة عن ارتفاع أسعار المياه لتكون أغلى من النفط. وكذلك ملف الدخول التركي على خط الخلافات والصراعات الداخلية العراقية المنطلقة من، والمستندة إلى، محركات قومية وطائفية ومذهبية وإثنية غذّتها عوامل خارجية إقليمية ودولية مختلفة.

وإذا كانت الظروف السياسية لكل من العراق وتركيا قبل الإطاحة بنظام حزب البعث المنحل في عام 2003 قد أبقت الملفات الخلافية منحصرة في مساحات معينة محدودة، فإن المرحلة أو المراحل اللاحقة لها شهدت خلطا كبيرا للأوراق، بسبب استغلال تركيا السيء لظروف العراق السياسية والأمنية والاقتصادية الاستثنائية، مع غياب مسار واضح ورؤية موضوعية عراقية لكيفية التعاطي مع تركيا وغيرها من الأطراف القريبة من العراق والبعيدة عنه. وكان مردّ ذلك الغياب التقاطعات الحادة والخلافات العميقة بين المكونات السياسية العراقية نتيجة تعدد وتباين ارتباطاتها وولاءاتها وأجنداتها، بحيث لم يكن ممكنا في ظل ذلك الواقع المتأزم تحقيق انفراجات حقيقية في الملفات الخلافية، وكان التوصيف الدقيق لعلاقات بغداد وأنقرة هو “الدوران في حلقة مفرغة” أو أن الحوار بينهما هو أقرب إلى “حوار الطرشان”، والدليل على ذلك أن شيئا لم يتغير، بل إن الأمور اتجهت في بعض المحطات والمنعطفات إلى المزيد من التأزيم والتصعيد السياسي والعسكري والمائي، رغم أن أغلب الذين تعاقبوا على رئاسة الحكومات العراقية خلال الأعوام العشرين الماضية زاروا أنقرة باحثين عن حلول للمشاكل ومفاتيح للأبواب الموصدة لكن دون جدوى، حيث أن أنقرة كانت تريد كل شيء دون أن تتنازل عن أي شيء، بينما كانت بغداد تأتي بلا رؤية واضحة أو برؤية ضبابية عائمة.

ذهب السوداني إلى تركيا وهي تبحث عن مسالك ومخارج تحفظ لها ماء الوجه وتجنبها خسائر واستحقاقات كثيرة وكبيرة، وما انعطافاتها بعد قطيعة أعوام نحو القاهرة وأبوظبي وعواصم أخرى إلا مؤشرات واضحة وجلية على ذلك

ولكن ماذا عن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وزيارته الأخيرة إلى أنقرة؟

في واقع الأمر، تفاوتت الرؤى والتقييمات لتلك الزيارة، بين من نظر إليها على أنها لم تخرج عن سياق المجاملات الدبلوماسية والسعي لتحفيز أنقرة للتعاطي الإيجابي مع العراق دون الدخول في صميم المشكلات والأزمات الأمنية والسياسية والمائية القائمة بين الطرفين منذ فترة طويلة، وبين من نظر إليها على أنها خطوة مهمة للغاية باتجاهين، الأول يتمثل بحل ومعالجة جزء من المشاكل الداخلية، لاسيما أزمة المياه في العراق، والوجود العسكري التركي المربك والمقلق على الأراضي العراقية، والذي توسع كثيرا خلال الأعوام العشرة الماضية، والاتجاه الآخر يتمثل بتعزيز حضور العراق وانفتاحه الإيجابي على محيطه الإقليمي والفضاء الدولي.

وفي الإطار العام، بدا واضحا أن كفة الرؤية الإيجابية رجحت على كفة الرؤية السلبية من خلال بحث ومناقشة ملفات حيوية وإستراتيجية عديدة، من قبيل طريق التنمية المعروف بالقناة الجافة، التي تبدأ من منافذ العراق البحرية في أقصى الجنوب، لتقطع مسالكه البرية حتى الشمال ومن ثم تدخل الأراضي التركية لتمر بمنافذها البحرية وتصل إلى أوروبا، وإطلاقات نهر دجلة لتأمين خزين مائي كاف للعراق، والتنسيق العسكري والاستخباراتي بشأن التعامل مع الوجود المعارض لتركيا في شمال العراق، وتحديدا حزب العمال الكردستاني، وتوسيع دائرة محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين، ووضع حد للاستغلال والتوظيف السياسي السيء من قبل أنقرة لهذه الورقة.

ذهب السوداني إلى تركيا، وهي غارقة في كم كبير من المشاكل السياسية والاقتصادية الداخلية، والمآزق الخارجية المرتبطة بمطامح ومطامع التوسع والهيمنة والنفوذ في ميادين بعيدة، وكأنها تحاكي حقبة الإمبراطورية مترامية الأطراف، وتتطلع إلى استعادة أمجاد الماضي المندثر تحت ركام المعارك والحروب العالمية والإقليمية على امتداد ما يزيد على القرن من الزمن.

ذهب السوداني إلى تركيا وهي تبحث عن مسالك ومخارج تحفظ لها ماء الوجه وتجنبها خسائر واستحقاقات كثيرة وكبيرة، وما انعطافاتها بعد قطيعة أعوام نحو القاهرة وأبوظبي وعواصم أخرى إلا مؤشرات واضحة وجلية على ذلك.

ذهب السوداني إلى تركيا حاملا رؤية شاملة إن لم تكن عميقة ودقيقة بالكامل، فإنها بلا شك واضحة المسارات والأهداف والمخرجات.

المياه وتقاسمها وتوزيعها بطريقة عادلة وفق المعاهدات والمواثيق الدولية والاتفاقات الثنائية والثلاثية، وضبط الحدود المشتركة، واحترام السيادة الوطنية، ومنع الاعتداءات العسكرية المسلحة من أراضي هذا الطرف ضد الطرف الآخر، والتعاون والتنسيق في مجال محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين.. كانت أبرز وأهم الملفات التي طرحها السوداني على طاولة البحث والنقاش مع كبار المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

ولعل واحدة من أبرز وأهم التساؤلات التي طرحت سابقا في مناسبات مختلفة وتطرح حاليا هي هل أن تركيا جادة وقادرة على تغيير وتعديل وإصلاح سياساتها الخاطئة ومواقفها وتوجهاتها السلبية حيال العراق؟

والإجابة على مثل تلك التساؤلات، تنطوي على قدر من الصعوبة، بسبب حجم التعقيدات والتشابكات والمؤثرات التي حكمت وتحكمت بمسارات العلاقات بين بغداد وأنقرة بمختلف المراحل والحقب التاريخية والراهنة، كما أشرنا آنفا.

لعل واحدة من أبرز وأهم التساؤلات التي طرحت سابقا في مناسبات مختلفة وتطرح حاليا هي هل أن تركيا جادة وقادرة على تغيير وتعديل وإصلاح سياساتها الخاطئة ومواقفها وتوجهاتها السلبية حيال العراق؟

وحتى لا نذهب بعيدا، ونغوص في عمق الكثير من الأرقام والمعطيات الجدلية، يمكن القول إن الحقيقة الشاخصة في ذلك تتمثل في أن تركيا تعاطت بصورة سلبية مع العراق طيلة عقدين من الزمن أو أكثر، وعملت على استغلال ظروفه السياسية والأمنية الاستثنائية من أجل تحقيق مصالحها وتعزيز وتوسيع نفوذها ووجودها فيه، ناهيك عن اللعب على وتر القضية الطائفية من بعض البوابات السياسية. وهي إذا كانت قد حققت بعض المكاسب، فإنها من جانب آخر خسرت أكثر منها، خصوصا وأنها فتحت العديد من الجبهات الخارجية في سياق سعيها المحموم لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ناهيك عن أن مشاكلها الداخلية على الصعيدين السياسي والاقتصادي تفاقمت واتسعت بدلا من أن تنحسر وتتقلص.

ولم يكن من الصعب على صناع القرار التركي إدراك حجم المشاكل والأزمات التي يواجهونها ويواجهها شعبهم، والتي تحتم عليهم حلها أو بأدنى تقدير حلحلتها، لاسيما وأن هناك استحقاقات انتخابية قريبة يمكن أن تعيد نتائجها ومخرجاتها رسم الخارطة السياسية، وصياغة معادلات جديدة تتقدم فيها قوى وشخصيات معينة على حساب أخرى.

وارتباطا بجملة حقائق وثوابت تاريخية وجغرافية وأمنية وسياسية واقتصادية، فإن مراجعة وتصحيح مسارات علاقات أنقرة مع بغداد يعدّان خيارا واقعيا وعقلانيا لا بد منه بالنسبة إلى ساسة أنقرة، مثلما أن العراق في ظل حكومته الحالية وما طرحته من برنامج خدمي إصلاحي تنموي انفتاحي وضع في أولوياته التعاطي مع كل الأطراف وفق قاعدة المصالح المتبادلة، وتكريس نهج الانفتاح وتوفير عوامل الجذب الاقتصادي، والتعامل مع الملفات الخلافية بطريقة متوازنة بحيث لا تفضي إلى المزيد من الصدامات والتقاطعات والاختلافات.

وقد لا يختلف اثنان في أنه لم يكن متوقعا أن تحدث زيارة السوداني إلى تركيا تحولات وانقلابات كبرى، بيد أن المتفق عليه هو أنها ربما شكلت منعطفا مهما في المسار المتعثر والمرتبك للعلاقات العراقية – التركية على ضوء الواقعيات الراهنة، فضلا عن إمكانية مساهمتها في احتواء مجمل أزمات ومشاكل المنطقة، وتحريك ملفاتها الخلافية، باعتبارها جاءت كجزء من سياق التحرك العراقي السياسي والدبلوماسي الإيجابي على دول الجوار والمحيط الإقليمي والفضاء الدولي.

وثمة من يعتقد أن علاقات إيجابية مثمرة بين بغداد وأنقرة من شأنها أن تعطي زخما كبيرا لمسار المصالحات الإقليمية، وتوفر بيئة مناسبة وفضاءات أوسع للحوار والتفاهم بين الفرقاء والخصوم الإقليميين، وبعيدا عن الأجندات والمشاريع الدولية التي ثبت بما لا يقبل الشك أنه أريد من ورائها إغراق المنطقة بالمزيد من المشاكل والأزمات والصراعات والحروب بمختلف عناوينها ومسمياتها وأشكالها ومظاهرها. فضلا عن ذلك، فإن علاقات إيجابية مثمرة بين بغداد وأنقرة، كما هو الحال مع علاقات بغداد وطهران، ومثلما يؤمل أن تكون العلاقات بين بغداد والرياض، يمكن أن تساهم في تحريك الأوضاع الاقتصادية للبلد وتعزز فرص الاستقرار والهدوء السياسي بدرجة أكبر، بلحظة تداخل السياسة مع الاقتصاد، والأمن كذلك.

9