معطوب الوناس عدو شرس للدكتاتورية والظلاميين لا يقبل التغييب

التساؤل المشروع يبقى مطروحا حول من دبّر ومن المستفيد من اغتيال الوناس؟ وهل كان يشكل خطرا على التقارب بين الإسلاميين والسلطة في الجزائر.
الخميس 2018/11/08
غيفارا الأمازيغ الذي تريد السلطة الجزائرية ترويضه حتى بعد اغتياله

"ليت قلبي من الحطب/ فأكويه بالجمر كي لا أعاني آلامه/ لكن بما أنه لصيق بجسدي/ فما عليّ سوى إسكاته بالأحلام/ مادام يمنع عني النوم/ ليتني أستطيع الهرب/ والحلول عليكم يوم العيد/ سآتي لأغفر لكم يا أهلي الأعزاء/ حين أظهر لكم في ضوء النهار".

كانت تلك أغنيته التي تحكي قصته. الشاب الذي لم يتجاوز بدايات الأربعين لا يكاد يمر أسبوع في الجزائر دون أن يتصدر اسمه نشرات الأخبار، ليس فقط كفنان، بل كأيقونة شعبية سياسية. من لغز حصر ميراثه، إلى ندوة دولية حول سيرته، إلى انتظار تنفيذ قرار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بتدشين متحف تاريخي يحمل اسمه.

وعلى الرغم من رحيله قبل أعوام بعيدة، لكنه حي في وجدان الأمازيغ كما في وجدان غيرهم من الجزائريين. وقد أسست الذكرى التاسعة عشرة لوفاة الفنان الأمازيغي الجزائري معطوب الوناس، لصلح غير مسبوق بين السلطة والتيار الراديكالي في الحراك البربري في الجزائر، فالرجل الذي وظف فنه ومساره لخدمة قضيته، وصنف بالخائن والمتمرد والعدو الداخلي لوحدة البلاد، تحول في الأشهر الأخيرة إلى بطل قومي ومناضل شريف، فهذا وزير الثقافة يزور بيت العائلة في الذكرى، وذاك رئيس البلاد يدعم تأسيس متحف للفنان في مسقط رأسه.

اغتيال عدو السلطة والإسلاميين

عائلة الوناس تطالب اليوم بفتح تحقيق محايد لمعرفة ملابسات مقتل نجلها، على يد مجموعة إرهابية ببلدة تالابونان، في طريق عودته من مدينة تيزي وزو
عائلة الوناس تطالب اليوم بفتح تحقيق محايد لمعرفة ملابسات مقتل نجلها، على يد مجموعة إرهابية ببلدة تالابونان، في طريق عودته من مدينة تيزي وزو

مازالت عائلة الوناس تأمل في فتح تحقيق محايد وعميق لمعرفة ملابسات مقتل نجلها العام 1998، على يد مجموعة إرهابية ببلدة تالابونان، في طريق عودته من مدينة تيزي وزو إلى مقر إقامته ببني دوالة، وهي الرواية الرسمية لحد الآن، في حين يشك أقاربه وأنصاره في صحة الرواية المذكورة، ويلمحون إلى جهات أخرى كان يزعجها الفنان بأغانيه وموسيقاه التي جابت ربوع البلاد وتعدت حدودها.

وحسب ما أفادت به شقيقته مليكة معطوب في تصريحات للصحافيين، تعتزم مؤسسة “معطوب الوناس” إطلاق عريضة مرفوقة بتوقيعات المواطنين للمطالبة بإعادة فتح ملف مقتله من قبل مجلس قضاء تيزي وزو بصفة جدية، بعد توصلها لمعطيات جديدة تستوجب فتح الملف من جديد.

وتذكر المؤسسة أن الطلب سيقدم للجهة القضائية السنة المقبلة، وذلك بمناسبة مرور 20 سنة على اغتيال المطرب معطوب الوناس، وأن أنصار فقيد الأغنية الأمازيغية عازمون على رفع وتيرة الضغط على السلطات المختصة، من أجل تلبية مطلبها المتمثل في الكشف عن حقيقة من أقدم على زهق روح الفنان، ومن يقف وراء الجريمة هذه ودبرها، ولم تستبعد إمكانية الخروج بمعية الأنصار والمتعاطفين للشارع، للمطالبة بتجسيد المطلب المذكور في حالة عدم إيجاد آذان صاغية لها.

وسبق لمحكمة الجنايات بمحافظة تيزي وزو، أن نظرت في قضية مقتل الوناس وحكمت بـ12 سنة حبسا نافذا في حق متهمين بالمشاركة في الجريمة التي أنكرها المتهمون، المنتمون إلى فصيل الجماعة السلفية للدعوة والجهاد التي كان يقودها في تسعينات القرن الماضي حسان حطاب.

يمثل الوناس رمزا حقيقيا للنضال الأمازيغي الحديث، فقد وظف فنه وموسيقاه في الدفاع عن الهوية الثقافية واللغوية للبربر في الجزائر، وعاش ناشطا ومناضلا ومعارضا شرسا للسلطة، إلى غاية اغتياله، وظل يوصف بـ”المتمرد والخائن والعميل”، لكنه تحول بعد سنوات من موته إلى بطل قومي، بعد الرسائل التي أطلقتها السلطة مؤخرا، على لسان وزير الثقافة الذي زار عائلته في ذكرى وفاته الأخيرة، وأبلغ شقيقته أن الرئيس بوتفليقة يدعم مسألة متحف الفنان في بيته.

الرمز الحي

كان الوناس واحدا من متشددي الحراك الأمازيغي في الجزائر، وظل عصيا على التطويع وصامدا في وجه الإغراءات، عكس الكثير من الناشطين البربر الذين وضعوا القضية خلف ظهورهم، وانخرطوا في مسار السلطة، عبر مختلف القنوات والمؤسسات، بداية من المناصب السامية في مؤسسات الدولة، إلى الأحزاب والجمعيات، ومع ذلك يبقى رمزا لأنصار ومناضلي القضية الأمازيغية، حيث لا تخلو بلدات ومدن تيزي وزو من جدارية أو تمثال للفنان الراحل.

ويظل المهتمون بالشأن الأمازيغي في الجزائر يتطلعون إلى إفرازات مساعي التطبيع بين السلطة والمقربين من الوناس، وإلى ردود فعل الأنصار والمتعاطفين مع التوجه المتشدد الذي ناضل من أجله الفنان الراحل، ولمصير الأفكار والمضامين التي حملتها الأغاني المتمردة على السلطة طيلة عقود من الزمن، فقد خاصم معطوب الوناس كل الرفاق الذين حمل معهم الهم الأمازيغي والتضحيات المقدمة من أجل الهوية البربرية.

وتشاء الصدف أن تكون السلطة والإسلاميون اللذان حمل الفنان لواء النضال ضدهما، هما المتورطين في مقتله بالرواية الرسمية أو بالشكوك القائمة، وهما التحالف الذي تشكل مع مطلع الألفية، في ظل ما يعرف بالعفو الذي كفله ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، على مسلحي الجيش الإسلامي للإنقاذ والجماعة السلفية للدعوة والجهاد، وهو الحلف الذي كان سيقول فيه الفنان الكثير لو بقي على قيد الحياة.

في وطن الجحيم

ويبقى التساؤل المشروع مطروحا حول من دبّر ومن المستفيد من اغتيال الوناس؟ وهل كان يشكل خطرا على التقارب الذي بدأ يطفو إلى السطح بين الإسلاميين والسلطة في الجزائر، منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، في إطار ما يعرف بـ”وقف الحرب الأهلية وتجنيب البلاد المزيد من الضحايا والخراب”، لا سيما وأن الراحل وضع الطرفين في نفس الكفة، وشدد على أنه سيبقى في بلدته ووطنه صامدا مناضلا في وجه ما كان يصفه بـ”الدكتاتورية والظلامية”.

عكس النخب الجزائرية التي اختارت الهجرة هروبا من جحيم العشرية الحمراء، إلا أن الوناس بقي مرابطا رغم رسائل التهديد والوعيد من طرف الجماعات الإرهابية التي كفرته ووصفته  بـ”الزنديق”، بسبب مواقفه المناهضة لثوابت العروبة والإسلام التي تتبناها البلاد، وتدرجها في خانة المقدسات المحمية بنصوص الدستور والقانون.

ولهذا تعرض الوناس قبل مقتله لمحاولة قتل باءت بالفشل، بسبب الهبة التي قام بها سكان منطقة القبائل ضد محاولة المساس بحياة ابنهم ورمزهم، مما اضطر الإرهابيين الخاطفين إلى إطلاق سراحه خوفا من توسع دائرة الحرب ضدهم في المنطقة، وتفاديا لفتح جبهة مجانية. ومع ذلك لم ينل الخوف من عزيمة الوناس، الذي واصل إطلاق أغانيه المميزة ورسائله السياسية القوية، حتى لحظة اغتياله، أملا في إسكات صوته، إلا أن تحول الرجل إلى رمز محفور في المخيال الأمازيغي أصاب أعداءه بالخيبة.

الوناس فنان مختلف يعد واحدا من متشددي الحراك الأمازيغي في الجزائر. ظل عصيا على التطويع وصامدا في وجه الإغراءات، عكس الكثير من الناشطين البربر، الذين وضعوا القضية خلف ظهورهم، ولذلك لا تخلو بلدات ومدن تيزي وزو من جدارية أو تمثال له

ومع كل ذكرى، تعود حادثة اغتيال الفنان “المتمرد” إلى الواجهة، فحضوره لا يزال قويا في الفضاءات والتظاهرات الثقافية والندوات الفكرية المخلدة لروحه، لما يحمله من رمزية ونضالية ارتبطت بنقده اللاذع للنظام وقصائده السياسية الجريئة وموسيقاه المميزة، وجرأته على كسر تابوهات الهوية وغوغائية الإسلاميين.

ورغم قصر حياته التي لم تتجاوز الـ42 عاما، يبقى الرجل مخلدا في ذاكرة الأجيال المتتابعة، لا سيما وأنه خلّف وراءه تركة فنية هامة، وقيمة ثقافية وحضارية ورمزية راسخة، مازالت مؤسسته وعائلته وأنصاره ومحبوه يبحثون عن جمعها وتوضيبها في متحف فني ببيت العائلة، قبل أن تتدخل السلطة وتعلن لشقيقته عن تمويل الحكومة لإنشاء متحف معطوب، في خطوة مازالت تثير الكثير من الشكوك والريبة.

الوناس الذي نعت بشتى الأوصاف السلبية في قواميس المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للدولة، تحول في لمح البصر إلى “بطل قومي ومناضل شريف”، بحسب وزير الثقافة عزالدين ميهوبي، الذي زار بيت العائلة مؤخرا، وكتب في حسابه الخاص على تويتر أن “معطوب الوناس فنان ومناضل شريف وملتزم”، ثم استقبل شقيقته في مكتبه، في خطوة تعكس نية السلطة في إذابة الجليد المترسب مع معطوب الميت، بعدما عجزت عن ذلك مع معطوب الحي.

صوت لا يمكن إسكاته

الذكرى التاسعة عشرة لوفاة الفنان الأمازيغي تؤسس لصلح غير مسبوق بين السلطة والتيار الراديكالي في الحراك البربري في الجزائر، فبعد أن وظف فنه لخدمة قضيته، وصنف بالخائن، تحول في الأشهر الأخيرة إلى بطل قومي ومناضل شريف
الذكرى التاسعة عشرة لوفاة الفنان الأمازيغي تؤسس لصلح غير مسبوق بين السلطة والتيار الراديكالي في الحراك البربري في الجزائر، فبعد أن وظف فنه لخدمة قضيته، وصنف بالخائن، تحول في الأشهر الأخيرة إلى بطل قومي ومناضل شريف

يطرح الجزائريون سؤالا يردده الكثير من أنصار الفنان: ماذا لو كان معطوب حيا.. بماذا كان سيرد على هذه المناورة؟ طبعا، لو كان حيا لتمرد أكثر على النظام ولكان معزولا أو بالمنفى وما كان ليعطى حبة تمر، لأنه لم يكن قابلا لأي تواطؤ أو رشوة مادية أو رمزية. معطوب، سواء وافقته الرأي أو اختلفت معه، يظل واحدا من قلة قليلة جدا من الفنانين المتمردين الملتزمين بما يعتقدون أنها قضاياهم.

 الأيادي التي اغتالته، سواء من الطرف الأول أو من الطرف الثاني، يرى الكثيرون أنها تصالحت اليوم مع النظام، بل وتشتغل لصالحه وتحت حمايته، وإلا ما دلالة هكذا خطوة أو مناورة، يريد أصحابها اللعب على أوتار منطقة القبائل في مرحلة ما قبل وما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة؟ لكننا ننتظر رد فعل من النخب الفنية محليا ووطنيا، ومن أنصار وعشاق الفن المتمرد والملتزم.

كان معطوب الوناس، الفنان المتمرد، ممنوعا من الظهور في التلفزيون الجزائري، فقبل مقتله بفترة قليلة أصدر “ألبوماً” تضمن أغنية ينتقد فيها النظام الجزائري مستخدما لحن النشيد الوطني الجزائري، لكن من يستطيع اليوم منع صوته بعد أن ظل طوال حياته، وحتى بعد مماته، مثيرا للجدل؟ ولا تزال كلمات أغانيه تعيش وسط شعبه يرددها كل يوم، خاصة تلك الأغنية التي تقول “لقد سرقتم شبابي/ ودفعت لكم ثمن ما لم أشتر/ أبعدتموني عن أهلي/ ودمرتم آمالي/ أفنى الشقاء عظامي/ لكن قبل أن تحل منيتي/ فإن كل ما احتمله قلبي/ سينفس عنه لساني”.

12