معضلة الجزيرة السورية والنموذج التايواني

استمرار الواقع الحالي لمنطقة الجزيرة السورية لفترة طويلة سيعزز من فرص قسد في فرض واقع "تايواني" على المنطقة باستمرار إداراتها الذاتية شبه الحكومية والحفاظ على قواتها المسلّحة شبه النظامية.
السبت 2025/02/22
هل تنجح قسد بـ"تيونة" منطقة الجزيرة السورية

من أكبر المعضلات في الواقع السوري اليوم مآل الجزيرة السورية التي لا تزال خارج سيطرة حكومة دمشق واقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.

فالمفاوضات حول مصير هذه المنطقة تتراوح منذ شهرين بين مطالب حكومة دمشق بالاندماج الكامل لقوات سوريا الديمقراطية – المعروفة اختصارا باسم “قسد” – في الجيش الجديد وعدم تمييز المناطق الواقعة تحت سيطرتها بأي خصوصية سياسية أو إدارية، وبين مطالب قيادة تلك القوات بإبقاء سيطرتها على المنطقة في إطار حكم لا مركزي والحفاظ على كيانها كقوة مستقلة داخل الجيش السوري بالإضافة إلى حصة من موارد الجزيرة الغنية بالنفط والغاز والأراضي الزراعية.

من الأسباب الإضافية لهذه المعضلة تشابك مصالح جهات دولية عدّة فيها، فالولايات المتحدة ومن ورائها دول “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب” تدعم قسد وتعدّها حليفا لها لا ترغب بالتخلي عنه في الوقت الحالي، وتركيا لا ترى في هذه القوات بغير العين التي تنظر بها إلى حزب العمال الكردستاني الذي قاتلته لأكثر من 40 سنة، وتعدّه خطرا على أمنها القومي يهدّد وحدة الأراضي التركية، وتخشى من بقاء منطقة الجزيرة المجاورة لها تحت سيطرة هذا الحزب الذي قد يحولها إلى قاعدة خلفية للانطلاق نحو الداخل التركي متى ما سمحت الظروف.

الحكومة السورية الجديدة تنظر إلى قسد على أنها خارجة عن قانونها المعلن برفض وجود أي تشكيلات عسكرية خارج إطار الجيش السوري، وتنظر إلى منطقة الجزيرة وبقية المناطق الخارجة عن سيطرتها على أنها جزء لا يتجزأ من سوريا الواحدة

الموقف التركي لا يزال واضحا منذ بدايات الثورة السورية، تدل عليه التصريحات المستمرة من قيادة البلاد السياسية والعسكرية بالعزم على القضاء على قسد وإزالة أي سيطرة لها على الأرض وانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، والتي ستتاح يوما ما – بحسب تلك التصريحات – كما أتيحت سابقا في عمليات “غصن الزيتون” و“نبع السلام” التي منع بها الجيش التركي وحلفاؤه من الفصائل السورية تشكيل حزام “قسدي” على طول الحدود السورية – التركية يمتد من شمال شرق الحسكة في المالكية إلى شمال غرب حلب في عفرين.

أما الموقف الأميركي فيعتريه غموض وترنح، خاصة بعد تولي دونالد ترامب حكم البلاد بمواقفه المعروفة تجاه الحروب الأميركية في الشرق الأوسط والدعم المكلف للحلفاء، ولذلك نجد اهتماما كبيرا من الأطراف المختلفة بأي تصريح من جهة سياسية أو عسكرية يحوي إشارة إلى النوايا الأميركية بالبقاء في الجزيرة السورية أو الرحيل منها، وبالتالي استمرار الغطاء العسكري والسياسي الأميركي على قسد أو رفعه عنها وتركها عرضة لضغط لا تقوى على ممانعته من قوات الحكومة السورية والجيش التركي المتحالف معها.

ومن المغالطات الشائعة بين المحلّلين للموقف الأميركي من قسد اعتبارهم أن فتح واشنطن قنوات تواصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع حكومة دمشق يتناقض مع استمرار علاقاتها مع قسد، وأن تحسين العلاقة مع الحكومة المركزية يعني تراجع العلاقة مع الأطراف الخارجة عن حكومة المركز.

وسبب الوقوع في هذه المغالطة عدم إدراك من تبنّاها عدم التناقض بين العلاقتين، فشواهد الواقع والتاريخ تثبت أنه يمكن أن تطور حكومة ما علاقتها مع حكومة أخرى وجهات معارضة لها في الوقت نفسه ولغايات مختلفة، فهي تستخدم علاقتها مع كل طرف لتحقيق غاية ما، منها الضغط على الطرفين عن طريق موازنة العلاقة مع الطرف المخالف أو المعادي له.

ولعل أقرب نموذج لعلاقة الجزيرة السورية اليوم مع الحكومة المركزية هو نموذج العلاقة بين جزيرة تايوان والبر الصيني، والعلاقة المتأرجحة للولايات المتحدة مع الطرفين على مدى سبعة عقود أو يزيد.

فجزيرة تايوان نالت وضعا سياسيا خاصا منذ الحرب العالمية الثانية بحكم قربها من اليابان المحتلة للصين، ثم بلجوء حكومة الصين إليها بعد سيطرة الشيوعيين على البر الصيني بكامله وامتلاكهم بذلك السلطة في البلاد، ثم تطور هذا الوضع إلى حالة استقلال للجزيرة وخروج عن طاعة الحكومة المركزية في العاصمة الصينية بكين، مدعوما بقوى دولية مناوئة للشيوعية في الغرب وفي شرق آسيا على حد سواء.

ثم تراجع هذا الدعم مع تحول السياسة الغربية تجاه الصين مدفوعا بالرغبة في شق المعسكر الشيوعي والاستفادة من الصين الشيوعية في خطة احتواء الاتحاد السوفياتي المتزعم لذلك، ولكن هذه الحالة الجديدة لم تؤدّ إلى سماح الولايات المتحدة للصين بإعادة توحيد تايوان مع الصين كهدية على اتخاذها نهجا شيوعيا وطنيا مخالفا للنهج الشيوعي الأممي السوفياتي، وبالتالي بقيت الجزيرة مستقلّة واقعا عن بكين المطالبة أبدا بعودتها إلى حكمها.

النزاع لم ولن يمنع قيام علاقات بين الطرفين قبل حسم تلك الملفات الشائكة، لا أقلها في المجال الاقتصادي، حيث تسيطر قسد على النفط والغاز وموارد أخرى تفتقدها حكومة دمشق، ما يفتح الباب أمام تبادل للمنافع بشكل مباشر أو من خلال وسطاء

فحتى مع سحب أكثر الدول والهيئات الدولية اعترافها بحكومة تايبيه (عاصمة تايوان)، وإقرارها بأن الجزيرة جزء لا يتجزأ من الصين الموحدة، فإن تايوان لا تزال تعلن نفسها دولة مستقلة باسم (جمهورية الصين)، وترفض رسميا وشعبيا العودة إلى الاتحاد مع الصين، مدعومة بموقف أميركي حازم يرفض أي مساع صينية لضم الجزيرة بالقوة ويهدد بالتدخل عسكريا للحؤول دون حدوث ذلك.

الحكومة السورية الجديدة تنظر إلى قسد على أنها خارجة عن قانونها المعلن برفض وجود أي تشكيلات عسكرية خارج إطار الجيش السوري، وتنظر إلى منطقة الجزيرة وبقية المناطق الخارجة عن سيطرتها على أنها جزء لا يتجزأ من سوريا الواحدة التي لا حكومة لها غير الحكومة الموجودة في دمشق، في حين تعلن قسد تمسكها بحكم المناطق التي تسيطر عليها ذاتيا، في إطار لا مركزية إدارية تطالب بتحقيقها واحتفاظ بالسلاح والموارد الاقتصادية يضمن لها مصادر قوّة في المراحل القادمة، مدعومة بموقف أميركي – غربي يحول دون أي هجوم سوري أو تركي على المنطقة التي تخط حدودها اليوم القواعد والطائرات الحربية الأميركية.

لكن هذا النزاع لم ولن يمنع قيام علاقات بين الطرفين قبل حسم تلك الملفات الشائكة، لا أقلها في المجال الاقتصادي، حيث تسيطر قسد على النفط والغاز وموارد أخرى تفتقدها حكومة دمشق، ما يفتح الباب أمام تبادل للمنافع بشكل مباشر أو من خلال وسطاء من رجال الأعمال المرتبطين بالطرفين، كما كان الأمر ساريا في العلاقة بين نظام بشار الأسد وقسد، بالإضافة إلى ملفات مشتركة أخرى كالسدود والطاقة الكهربائية والحدود والمعابر وغيرها، ولا أدلّ على ذلك من إعلان مسؤولين في وزارة النفط السورية توقيع عقد لاستجرار الغاز من شرق سوريا لتزويد محطات الكهرباء، وكذلك ما أشيع عن إرساء مناقصة كبيرة لتوريد النفط إلى الحكومة السورية على تجار معروفين سابقا بتسويق نفط الجزيرة السورية في مناطق شمال حلب وإدلب.

وهذا الأمر مشابه لواقع الحال في العلاقات الصينية – التايوانية، فالتهديدات الصينية المستمرة بغزو الجزيرة لم تمنع الصين من الاعتماد بشكل كبير على التكنولوجيا التايوانية في تشغيل صناعة الإلكترونيات والذكاء الاصطناعي في الصين، نظرا لاحتكار تايوان لبعض التقنيات الحيوية في هذه الصناعات، وفي نفس الوقت لا يمكن لنزعة الاستقلال التايوانية أن تمنع استفادة اقتصاد الجزيرة من عامل القرب مع أهم سوق تجاري وصناعي في العالم، لتتشكل هذه العلاقة بين الطرفين القائمة على النزاع الجيوبوليتيكي والتعاون الإيكونوميكي، بانتظار اليوم الذي تتمكن فيه الصين من إعادة ضم الجزيرة والسيطرة على الموارد الموجودة فيها بشكل كلي مع ضعف تراجع آمال الاستقلاليين التايوانيين بتثبيت الواقع القائم رسميا من خلال دولة معترف باستقلالها عن الصين.

إن استمرار الواقع الحالي لمنطقة الجزيرة السورية لفترة طويلة سيعزز من فرص قسد في فرض واقع “تايواني” على المنطقة، باستمرار إداراتها الذاتية شبه الحكومية، والحفاظ على قواتها المسلّحة شبه النظامية، والاستفادة من موارد اقتصادية كبيرة تحت سيطرتها، مستفيدة من حماية أميركا وتردّد حكومة دمشق وعجز تركيا عن التدخل دون توافق مع أطراف متعددة ذات علاقة بهذا الملف.

9