في سوريا: إغاثة، تعاف، أم إعادة إعمار

كثيرة هي النقاشات التي تدور اليوم بين الخبراء حول كيفية التعاطي مع المشكلات الخطيرة التي تحف بالواقع السوري، والتي هي حصيلة عقود من الفساد والإدارة الفاشلة لحكومات البعث، وسنوات من الحرب المدمِّرة التي شنّها نظامه المجرم على السوريين.
فسوريا التي هدّ الاستبداد أركانها، ودمّرت حربه عمرانها، وشرّدت ميليشياته سكانها، لا تزال غارقة في مستنقعات الفقر والفساد، مفلسة من الأموال والموارد، عطشى للاستقرار والأمن، متطلعة إلى التنمية وإعادة البناء.
محاولات إصلاح هذا الواقع ليست وليدة سقوط نظام بشار الأسد، بل بدأت مع تخلخل القبضة الشمولية له عن البلاد مع ثورة السوريين ضده. تلك القبضة التي كانت تخنق أي مبادرة من المجتمع المحلي خارج إطار مؤسساته الفاسدة وهيئاته الحزبية المتعفّنة، عدا عدد من الجمعيات التي تخدم الشرائح الأضعف بصورة تقليدية، وتموَّل من تبرعات المحسنين واستثمارات محدودة، وأخرى يوظفها المرتبطون بالنظام لتبييض أموالهم أو سمعتهم.
التدخلات مع بداية الثورة كانت أهلية في البداية، تتسم بالسذاجة والعفوية، وتستهدف المشكلات الطارئة ذات الحلول الوقتية، كتأمين المسكن للعوائل النازحة، والكفالات لأسر الشهداء والمعتقلين، والطبابة للجرحى والمصابين، وتأمين بعض المستلزمات اللوجستية المختلفة وطرق الإمداد بها من دول الجوار.
ومع توسع الحرب وتضخم آثارها المدمِّرة، تجاوزت الحاجة قدرات التنسيقات الإغاثية المحلية، وهرعت جهات متعددة حكومية وغير حكومية لتقديم المساعدة للمجتمعات المنكوبة، مستهدفة استيعاب حشود النازحين في المخيمات، وترميم المراكز الخدمية المدمَّرة وإعادة تشغيلها، وتقديم المواد الإغاثية الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة في ظروف قاسية يحفها الخطر، وتمزق في مجتمعاتها المنهكة الروابط الاجتماعية والاقتصادية.
◙ سوريا التي هدّ الاستبداد أركانها ودمّرت حربه عمرانها، وشرّدت ميليشياته سكانها، لا تزال عطشى للاستقرار والأمن متطلعة إلى التنمية وإعادة البناء
العمل الإغاثي الكثيف ساعد لسنوات الناس على البقاء، رغم ما اعتراه من هدر وفساد وتدخلات من أجهزة النظام والمعارضين له بدرجات متفاوتة. ثم خضع لمراجعات عديدة من الجهات الممولة له والهيئات المشرفة عليه، للنظر في جدوى الاستمرار فيه، وإمكانيات تغيير وجهاته بما يتناسب مع واقع البلاد الذي تغيّر بشكل واضح بعد العام 2017، باستقرار جبهات القتال، والدخول في هدنة غير مؤقتة، وظهور بوادر حوكمة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
علت الأصوات بضرورة توجيه الأموال لمساعدة المجتمعات على الاعتماد على نفسها، بدل الاعتياد على المعونة الخارجية الممثلة بسلة الغذاء وعلبة الدواء وقسيمة الوقود ومراكز الإيواء.
وفي الوقت الذي لم يكن ممكناً إيقاف المساعدات الإغاثية المقدَّمة للسكان، بسبب استمرار الحاجة الملحّة إلى الغذاء والدواء والمسكن والرعاية النفسية والاجتماعية، وجّه المانحون قسماً من تمويلهم تجاه المشاريع التي تدعم مساعدة المجتمعات في سوريا للخروج من الحالة الطارئة التي تسببت بها الحرب إلى حالة استقرار أكثر استدامة، وذلك من خلال استعادة جزئية للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تشكل بيئة مناسبة لنهضة هذه المجتمعات من جديد، ما يعكس تعافيها من آثار الحرب، تمهيداً لعودتها إلى الوضع الصحي، ثم تنميتها نحو وضع أفضل.
هذا التوجه كان يتضح أكثر مع تراجع التمويل الدولي للتدخلات الإنسانية في سوريا، خاصة بعد الحرب الأوكرانية. وبالتالي، زادت حدة المفاضلة بين العملين الإغاثي والتنموي، وكذلك بسبب الصعوبات المتعلقة بقدرة الأمم المتحدة على الوصول والعمل في مناطق الشمال السوري، نظراً للاعتراض الروسي على آلية المساعدة عبر الحدود، وفق الإذن الممنوح من مجلس الأمن، والذي يتيح تجاوز موافقة النظام السابق على العمل في المناطق الخارجة عن سيطرته. وتضاف إلى ذلك الجهود الرامية لعودة اللاجئين إلى الداخل السوري، وضرورة تهيئة الأرض لهم قبل عودتهم، من خلال توفير المسكن والخدمات وسبل العيش المستدام.
وتعالت الأصوات بضرورة تسريع عملية تعافي المجتمعات السورية وانتقالها للاعتماد على الذات، استعداداً للأسوأ، وهو نضوب موارد العمل الإغاثي خلال سنوات قليلة قادمة. وسمع مدراء البرامج والمحافظ في المنظمات العاملة في سوريا اعتذارات الجهات المانحة للتمويل عن العناية بمشاريع الإغاثة، متعللين بأن الوقت قد حان في سوريا للانتقال من حالة الإغاثة إلى حالة التعافي المبكر، أو أن القرار قد صدر بذلك من أصحاب القرار في توزيع أموال التبرعات من كبار المانحين في العالم، ليكلل هذا الكلام بإعلان الأمم المتحدة قبل شهر من سقوط النظام عن هذا الانتقال بشكل رسمي.
وشملت إستراتيجية التعافي المبكر للسنوات الخمس القادمة التي أعلنتها الأمم المتحدة قطاعات الصحة، والتعليم، والمياه، والصرف الصحي، وسبل العيش المستدام، والإمداد بالطاقة، بتمويل من صندوق مخصص لهذا الغرض، وبإشراف وتنسيق من المنظمة الدولية. واعتمدت نهجاً قائماً على المناطق والاحتياجات، معطية الأولوية للفئات السكانية الأكثر ضعفاً وتهميشاً، والأقليات، واللاجئين، والنازحين، والعائدين، والمجتمعات المُضيفة.
هذه الإستراتيجية لاقت، قبل الإعلان عنها وبعده، موافقة ودعماً ووعوداً بالتمويل من جهات عربية وغربية، في حين واجهت رفضاً من النظام البائد وحلفائه، الذين كانت مقاربتهم تنطلق من وضع التمويل في أيديهم، وتوجيه العملية كلها من خلالهم، وغير ذلك من التعقيدات التي أصبحت في عداد الماضي.
◙ المجتمع في سوريا متعطش لمشاريع إعادة الإعمار التي تعيده إلى الحالة الطبيعية، لكن واقع الحال على الأرض يظهر استمرار الحاجة الماسّة للعمل الإغاثي
واليوم تبرز أهمية هذه الإستراتيجية بشكل أكبر، مع حاجة سوريا إلى دعم كبير للتعافي من آثار الحرب المدمّرة وما نتج عنها من دمار ونزوح وتعطل لعجلة الاقتصاد وتأخر التنمية، ونظرة رمادية تجاه المستقبل. مع ضرورة الأخذ بالاعتبار التغيرات الحاصلة على الأرض، وخاصة في الاتجاه المناطقي السابق للإستراتيجية، الذي فرضه تقاسم السيطرة العسكرية على الأرض بين جهات مختلفة، والتباينات المكانية في احتياجات المناطق والتدخلات الممكنة فيها.
جانب آخر ينبغي أخذه بعين الاعتبار مرتبط بآلية تنفيذ الإستراتيجية في ظل الحكومة الجديدة في دمشق، والتراخيص الدولية للعلاقة معها ومع مؤسساتها المختلفة، والدعوات لرفع العقوبات عنها وعن أنشطتها، الأمر الذي يمكن أن يغير خطة التشارك تجاه الجهات الحكومية بدلاً من منظمات المجتمع المدني، التي كانت جهود الإغاثة والتعافي تعتمد عليها بشكل كبير في المرحلة السابقة.
التنسيق بين جهود التعافي المبكر ومشاريع إعادة الإعمار الأوسع والأطول مدى يمكن أن يوظف الأولى في خدمة الثانية، ويسرّع من تعافي المجتمع بشكل أكبر، والانتقال به نحو التنمية بمختلف مجالاتها: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. الأمر الذي قد يختصر فترة التعافي وتكاليفها، بالنظر إلى سرعة تحقق آثار البرامج والمشاريع المخصصة في هذا الجانب. وذلك بالتأكيد تبع لإعادة تقييم الاحتياجات في سوريا، وتعديل منطق التدخل لتلبية هذه الاحتياجات، والمراجعة المستمرة لخطط العمل وتنفيذها على الأرض.
المجتمع في سوريا متعطش لمشاريع إعادة الإعمار التي تعيده إلى الحالة الطبيعية، ولكن واقع الحال على الأرض يظهر استمرار الحاجة الماسّة للعمل الإغاثي لتأمين ضروريات الحياة، وخاصة في المناطق التي خرجت حديثاً عن سيطرة النظام، وإن كانت المناطق الأخرى لم تتجاوز هذه المرحلة كثيراً. ما يوجب توازي خطي الإغاثة والتعافي وتكاملهما في خدمة إعادة الإعمار، وذلك في إطار التخطيط الإقليمي للعمل الإنساني والتنموي في البلاد، بعيداً عن الفروقات المناطقية، وضمن خطط زمنية مرنة تُضبط سير المشاريع وتتابعها لتحقيق أهداف البرامج التي تخدمها. وذلك كلّه يتطلب دعماً مالياً كبيراً في هذه المرحلة، ومساعدة في استعادة سوريا لمواردها الذاتية لدفع عجلة التنمية وإزالة العقبات التي تعترض طريقها الصعب.