تحولات سوق العمل في سوريا ما بعد الثورة

خلال السنوات الماضية كان حلم العودة يراود نسبة كبيرة من السوريين، ليس فقط العودة إلى الديار التي هجّروا منها، وإنما العودة إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تغيرت معالمها كثيرًا خلال سنوات الثورة والحرب.
ومن بين جوانب استعادة الحياة السابقة، مثلت العودة إلى المهن والوظائف التي كان الناس يحترفونها صورة بارزة لإمكانية تعافي المجتمع من آثار الحرب والنزوح والانهيار الاقتصادي الشامل في البلاد كلها، وذلك لما للمهن والوظائف من تأثير كبير على حياة السكان الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
فمع بداية أحداث الثورة في سوريا بدأت نسبة من الشباب بالانغماس في الشأن العام، كنشطاء سياسيين ينظمون المظاهرات ويوجهون المعارضة، أو إعلاميين يغطون الأحداث ويردون على الإشاعات، أو إغاثيين يساعدون المجتمعات المنكوبة على الصمود. ومع زيادة بطش النظام، اضطر الكثير منهم إلى حمل السلاح كمتطوعين بداية ثم كمحترفين للقتال مع تطور الأوضاع، ليتركوا رويدًا رويدًا الحياة المدنية التقليدية إلى الحياة العسكرية بقسوتها وصعوباتها.
ومع نزوح السكان المدفوع بالحرب التطهيرية المدمّرة التي شنّها النظام وميليشياته وحلفاؤه، ترك الناس خلفهم مصادر رزقهم الأساسية، من أراضٍ زراعية ومحلات تجارية ومراعٍ للحيوانات وورش صناعية ومعامل وغيرها، وكذلك ترك الموظفون خلفهم مؤسسات عامة وخاصة كانوا يعتاشون على رواتبها الشهرية، ليجد النازحون أنفسهم فجأة في مناطق لا يملكون فيها مصادر دخل خاصة، وليس فيها من المشاريع الخاصة ما يستوعب الأفواج الهائلة من العمالة التي حلّت فيها فجأة. ومع فقدانهم مدخراتهم في انتظار العودة، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى العمل في مجالات بعيدة عن مؤهلاتهم وخبراتهم وبأجور زهيدة.
وفي هذه الأجواء ظهرت مهن جديدة في سوق العمل في سوريا، لم تكن موجودة من قبل، مثل امتهان القتال لأجل المال، كتطور لمسيرة المقاتلين لهدف سياسي يتمثل في إسقاط الحكم الغاشم لاستبداله بحكم عادل، وذلك عن طريق شركات توظيف للمقاتلين تتخذ صورة فصائل في الجيش الحر لحشد المقاتلين إلى مناطق بعيدة عن سوريا كليبيا وأذربيجان وجنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
كما تضخم سوق العمل لمهن كانت هامشية في المجتمع السوري، كالعمل في منظمات المجتمع المدني الذي كان مقيدًا بسبب الحكم الشمولي الذي يخضع كل الأنشطة المدنية لنفوذ أجهزته الأمنية وإدارة حكوماته الفاسدة ويحظر أي تمويل من جهات دولية أو غير حكومية لا يدخل في موازنته. وهكذا ظهر عدد كبير من المهن المرتبطة بمشاريع هذه المنظمات، لم يكن سوق العمل مستعدًا للكثير منها، لكونها غير مرتبطة مباشرة بتخصصات الجامعات والمعاهد، ولندرة العاملين فيها القادرين على نقل خبرات سابقة إلى زملائهم.
◙ العائدون من القطاع غير الربحي إلى القطاع الخاص الربحي سيجدون فرقا كبيرا بين القطاعين في المؤهلات والخبرات التي تتطلبها وظائف كل منهما
ولكن مع تراكم الخبرات والعمل الطويل الذي قارب 15 عامًا في هذا المجال، احترف الآلاف من الشباب السوريين العمل في مشاريع المنظمات الربحية، ووصل عدد كبير منهم إلى مناصب قيادية في منظمات دولية. فإذا أضفنا ما واجهه النازحون والمهاجرون خارج البلاد في أوروبا ودول الجوار من تغيّرات في أسواق العمل الجديدة، ومن صعوبات للتلاؤم مع هذه الأسواق ومتطلبات وظائفها، ندرك حقيقة التحوّلات التي اضطر السوريون إلى الدخول فيها للحصول على فرص عمل في مختلف المناطق. وهذا الأمر مثل جانبًا هامًا من الآثار الاجتماعية والاقتصادية على المجتمع السوري في ظل الحرب.
فالتحول الوظيفي للفرد يعني تركه مؤهلات دراسية أمضى سنين في الحصول عليها وخبرات عملية تعب كثيرًا في الحصول عليها وصقلها وعلاقات عمل ذات أهمية كبيرة في النجاح المهني والتطور الوظيفي، واكتسابه مؤهلات وخبرات جديدة تساعده على النجاح في الوظائف والمهن التي يجدها مفتوحة أمامه في سوق العمل الطارئ عليه. ولذلك، فإن ما بذله السوريون للتأقلم مع الواقع الوظيفي الجديد في مناطق النزوح داخل سوريا وخارجها كان كبيرًا ومكلفًا على كل الأصعدة.
وبُعيد إسقاط النظام البائد بدأ النازحون بالعودة إلى أماكن سكناهم الأصلية، ليجدوا بيوتًا سوّيت بالأرض، وبساتين قطعت أشجارها، ومشاريع نهبت أصولها. ولكن رغم ذلك، شكلت العودة بالنسبة إليهم أملًا في استعادة حيواتهم السابقة بعد إعمار منازلهم وزراعة أراضيهم وترميم ورشهم ومعاملهم. وهذا ما سيسهل إحياء مشاريعهم الخاصة، ويفتح الباب لتوظيف أعداد كبيرة من العاملين في هذه القطاعات.
وكذلك فإن حكومة تصريف الأعمال الجديدة ما لبثت أن أعلنت عن إعادة الموظفين المنقطعين عن وظائفهم الحكومية خوفًا من ملاحقة الأجهزة الأمنية وبطش الميليشيات المجرمة، الأمر الذي سيتيح لمئات الألوف من السكان أن يعودوا إلى وظائفهم من جديد، والكثير منهم يعملون الآن في مجالات بعيدة عن مجالاتهم الوظيفية الأصلية.
هذه التغيرات الحاصلة اليوم ستفرض تحولات كبيرة في سوق العمل، كماً ونوعاً، فالعائدون إلى الوظائف الحكومية سيتركون خلفهم حجمًا كبيرًا من فرص العمل في قطاعات العمل الخاصة وغير الربحية، ولكن في الوقت نفسه سيسدون الباب لفترة طويلة ربما أمام الوظائف الحكومية، نظرًا لأعدادهم الكبيرة الفائضة عن الحاجة أساسًا بسبب سياسات التوظيف الحكومية سابقًا والتي خلفت ثقلًا كبيرًا من البطالة المقنّعة.
والعائدون من القطاع غير الربحي إلى القطاع الخاص الربحي سيجدون فرقًا كبيرًا بين القطاعين في المؤهلات والخبرات التي تتطلبها وظائف كل منهما، الأمر الذي يفرض إعادة تأهيل الكثير منهم لملاءمتهم مع الاحتياجات الجديدة لسوق العمل.
وهذا الجانب يمثل اليوم احتياجًا كبيرًا في قطاع التعافي وإعادة الإعمار يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تسدّه من خلال دراسة سوق العمل الجديد واحتياجاته، وإعداد برامج تدريبية تغطي هذه الاحتياجات عن طريق تأهيل العاملين بالمعارف والمهارات اللازمة، وهو ما سيساعدهم على تحصيل فرص عمل والنجاح في مختلف قطاعات العمل العام والخاص وغير الربحي.