معرض "الأبد هو الآن".. من الأهرام إلى "حوار العرب"

الأهرامات اخترقت الزمن كما لو أنه لم يمر بها ولم تهزها قوة عصفه وهي تتحدى السنين والغزاة.
الأحد 2023/11/12
كما لو أننا قبل الطوفان

“انظر إلى يسارك” قال لي محمد طلعت علي وهو مؤسس ومدير غاليري مصر. التفتُ فلم أر شيئا. كان ذلك الشيء الذي لم أره أكبر من أن يُرى. قلت لنفسي لن أتمكن من رؤية الثلاثة معا. لقد رأيت هرما واحدا. بعدها رأيت اثنين. أما الأهرامات الثلاثة فقد عثرت عليها في صورة التقطتها من ساحة الصوت والضوء من غير أن أكون عارفا بذلك.

كنت قد خططت أن أرى الأهرامات من بعيد. لا لأني لا أملك الوقت بل لأني أعرف أن “الواقع لا زمن له”، ذلك هو عنوان العمل الفني الذي أنجزه الفنان البحريني راشد آل خليفة في إطار التظاهرة الفنية “الأبد هو الآن”. مشيت مع طلعت والرسام العراقي سيروان باران في الصحراء من أجل أن نصل إلى ذلك العمل.

ألغاز الأبد

◙ في ساحة الأهرامات تتجدد ألغاز الأبد
في ساحة الأهرامات تتجدد ألغاز الأبد

من الصعب أن يصف المرء مشاعره وهو يقف أمام الأهرامات. الأكثر صعوبة أن يعرض فنان عمله أمامها. مهمة انتحارية لا يُحسد عليها الفنان بقدر هائل من الإشفاق. تذكرت أنني حين رأيت الأهرامات أول مرة قبل أكثر من ثلاثين سنة أشفقت على النحات المصري. كيف يمكنه أن يفلت من هيمنة وتأثير تلك الأعمال الطاعنة في تجريدها. ثقل الحجر وخفة النظر. الثبات والتحليق معا. يومها تذكرت النحات الإسباني أدواردو تشيلدا، عصفورا يحمل حجرا. كم كان علي أن أجاري الغموض بالشعر.

حين يقف المرء أمام الأهرامات تتجدد ألغاز الأبد التي لا يمكن حل شفراتها. الكثير من الإجابات التي صنعت تلالا من المجلدات وما من شفاعة لمتسائل وهو يواجه فكرة الموت التي تنزلق على الحجارة مثلما تفعل قطرات المطر.

لماذا ومتى ومَن وكيف وهل؟ الأجوبة الجاهزة تضحك من نفسها في ظل استمرار تلك الأعمال التجريدية في عصيانها. “خوفو” و”منقرع” و”خفرع” وإلى الجانب الشرقي منها يقف أبو الهول في إشارة مبهمة إلى صمت الأبد.

مر الغزاة وما لمسوها

حين حضرت حفلة افتتاح تظاهرة “الأبد هو الآن” الفنية أدركت أن لا أحد يجاري المصريين في التنظيم. آلاف الحضور من غير أن يشكو أحد من عدم العثور على المكان المخصص له. وبالرغم من أنني لم أكن متأكدا من المسافة التي  تفصل بيننا وبين الأهرامات فقد كان هناك شعور بصري بأننا نقف في حضرتها.

يمتزج الوهم بالواقع. لعبت الإنارة المتقنة دورا مؤثرا في إبراز معالم تلك الآثار العظيمة. لا يحتاج المرء سوى أن يتسمر في مكانه ليتأمل.

بوكس

حين لُقبت المطربة “أم كلثوم” بـ”الهرم الرابع” فإن ذلك اللقب لم يستند إلى حقيقة أن المصريين القدماء كانوا قد بنوا 118 هرما توزعت بين مناطق تمتد من الجزيرة حتى هوارة على مشارف الفيوم. ومع ذلك فإن أهرامات الجيزة الثلاثة تظل أشهرها لأنها أكبرها والأكثر اكتمالا بما يجسد الشكل الهرمي.

ما من أثر في الحضارات القديمة يوحي بالأبد مثلما يفعل الهرم المصري. أولا لأنه لا يؤرخ لوقوع حدث مباشر وثانيا لأنه لا يرتبط بزمن بعينه وثالثا وهو الأهم أنه لا يحمل دلالة يمكن أن تتكرر. الهرم نفسه لا يتكرر كما أن إمكانية زواله أو إزالته تبدو مستحيلة.

مر الغزاة بأهرام الجيزة ولم يمسوا حجرا من أحجارها. ومن أظرف ما قيل عن الأهرامات ما ورد على لسان علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق من تصريحات ورد فيها أن النبي إدريس هو الذي بنى الأهرامات وأن تمثال أبو الهول تجسيد له. وهناك مَن يقول إن الأهرامات بُنيت قبل الطوفان. وما ربط تلك الآثار المبهمة بالحكايات الدينية إلا نوع من محاولة إزالة الطابع البشري عنها، كونها تنتمي إلى عالم الخلود.

عصا الساحر

“لم يبن الفراعنة الأهرامات”، كانت تلك واحدة من النظريات التي تشبه النظريات التي تتعلق بأصل السومريين في العراق والذين قيل إنهم قدموا من كوكب آخر. ومن يقف في حضرة تلك العمارة الراسخة في الأرض، المحلقة في الفضاء لا بد أن يتحقق من معنى “الأبد هو الآن”، وهو شعار المهرجان الفني العظيم الذي شهدت مصر نسخته الثالثة.

◙ عرض أعمال فنية أمام الأهرامات
عرض أعمال فنية أمام الأهرامات

في محيط الأهرامات بصحراء الجيزة توزعت الأعمال الفنية الكبيرة التي تعود إلى فنانين عرب وأجانب وكلها يمكن تصنيفها في إطار فن ما بعد الحداثة، كما أن هناك فنانين حاولوا أن يستفيدوا من المكان بحيث يدخل المشهد البصري المذهل للأهرامات في تكوين العمل الفني كما لو أنه جزء منه.

لقد برع أولئك الفنانون في التقاط ذلك المشهد وتحويله إلى عامل إثارة وعصف بدلا من أن يكون مجرد خلفية. غير أن ذلك ما يمكن أن يُحسب لإدارة المهرجان التي عرفت كيف تزج بالفنانين في سباق تحد صعب. وليس شعار المهرجان إلا تجسيد لذلك التحدي. فالأبد هو الآن. فهل يكون الآن هو الأبد؟

اخترقت الأهرامات الزمن كما لو أنه لم يمر بها ولم تهزها قوة عصفه، ولا يعني تحديها وهي التي بُنيت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة إلا الاعتراف بأنها لا تزال تملك جاذبية وسحر وقوة العمل الفني الذي لا يذهب إلى الأرشيف. بمجرد أن تراها من خلال عمل فني معاصر فإنك تمسك بعصا الساحر التي يكون في إمكانها أن تنتقل بك بين الأزمنة. لقد أدرك الفنانون المعاصرون كم كان المكان مهيبا غير أنهم أدركوا في الوقت نفسه أن أعمالهم الفنية ستنتمي إلى زمن لا حدود له. ليس للتاريخ معنى حين تكون الأهرامات طرفا في المعادلة الفنية.

في إطار تلك التظاهرة شهدت القاهرة معارض فنية كثيرة يقف في مقدمتها المعرض الذي أقامه غاليري مصر في قلعة صلاح الدين بعنوان “حوار العرب”. من خلاله حاول محمد طلعت علي، وهو فنان وناقد فني ومؤسس الغاليري، أن يفتح نافذة القاهرة من جديد على الفن العربي. فكرة تقوم على التحدي بعد ما شهده العالم العربي من قطيعة استمرت أكثر من خمسين سنة.

ضم المعرض أعمالا لرسامين عرب تكشف عن أن هاجس الحداثة قد لعب دورا كبيرا في التقريب بين الأساليب والأفكار، وهو ما جعل من المعرض نسيجا ممتعا للنظر، مثيرا للتفكير.
يقول طلعت بتواضع “إنها خطوة أولى”، غير أنها من وجهة نظري خطوة قوية وليست الطريق صعبة بالنسبة إلى رجل من نوعه، كرس خبرته من أجل الانفتاح على العالم العربي. “حوار العرب” هو بداية لمسيرة فنية خلاقة تستعيد من خلالها مصر ريادتها وهو في الوقت نفسه محاولة لإعادة البوصلة للفن في العالم العربي، تلك البوصلة التي يرى من خلالها الفنان العربي مكانه على خارطة الفن في العالم.

8