معرض "أنوميا" رؤية جماليّة متشعبة في مواجهة فوضى الواقع

الفنان التونسي بلحسن الكشو يدعو من خلال معرضه "أنوميا2"  للثورة على الصمت من خلال منحوتات خزفية تشكل حالات متفاوتة من الإنسانيّة "المضطربة".
الأربعاء 2020/02/12
نحن نصمت إزاء "أنوميا" الواقع فهل وجدنا أنوميا الخزف

تونس- يقدّم الفنان التونسي بلحسن الكشو معرضا فرديّا بعنوان "أنوميا2" برواق الخزفيّات في مدينة الثقافة، وذلك بعد مرور عام على معرضه الأوّل "أنوميا1" الذي احتضنه رواق المعهد العالي للفنون والحرف بمدينة صفاقس.

وللوهلة الأولى طرحنا سؤال محوريّ "ما المغزى من تسمية معرض فنيّ باستعمال مصطلح سوسيولوجي والحال أنّنا أمام مجموعة كبيرة من الأعمال الخزفيّة الفنيّة الصاخبة تقنيّا وتشكيليّا؟ ألا يجعلنا ذلك في مأزق الفهم والإدراك وحتى الاستمتاع؟ ألا يجعلنا العنوان بوصفه "عتبة الرؤية" في صدام مع "أنوميا" الواقع؟.

وتأتي إجابة الفنّان بلحسن الكشو بالقول "إنّ الغرض من عرض فنّان ما لأعماله هو تحفيز لإدراك معناها. معرضي "أنوميا" هو مواجهة ما نتجاهله، هي حالة عدم الاستقرار، هي كلّ هذا القلق الذي يعترينا وهي الاضطراب والفوضى التي نتقبلها باستسلام.

 نحن نهرب من الحقائق ونتناساها وراء استقرار مزعوم، لذلك فأعمالي هي دعوة للمواجهة والتعرّي والإفصاح، ألم يقل الشاعر التونسي العظيم منوّر صمادح "تَكَلَّمْ وَتَأَلَّمْ ولْتَمُتْ في الكَلِمَات"، وكذا أنا اليوم أكرّر من جديد دعوته للثورة على الصمت والتخاذل".

روح يسكنها الضجيج

دعوة صريحة للاستفاقة من غيبوبة الصمت
دعوة صريحة للاستفاقة من غيبوبة الصمت

يؤكّد الكشو أنّ إختياره للكلمات المكتوبة على خزفياته هي دعوة صريحة للاستفاقة من غيبوبة الصمت. يُحمّل أعماله كَمًّا هائلا من الرسائل المتناقضة إلى الحد الذي يجعلنا عاجزين عن تتبّع حكاية ما أو الاسترسال مع جمالية المواد والتنصيبات الخزفيّة. هو يقدّم لنا الفوضى التي نعيشها كما هي، ويعنونها كحالات متفاوتة من الإنسانيّة المضطربة، بدليل أنّه يطلق على خزفياته تسميات متنافرة لنجد "الربيع مؤكسدا" و"اشتدي أزمة" "انفرجي" و"دعاة السلام" مقابل "بر- لمان" أو برّ الأمان المفقود.

يضعنا في خيارات هذيانيّة محفوفة بالمخاطر، فإمّا الصمت القاتل أوالصراخ المدوي، إمّا الجنون أو السكون، وليس هناك من استقرار، يجب علينا النظر أكثر فأكثر والإصغاء جيّدا، "يجب طرح الشكّ وفتور النفس البشريّة -يقول ألبيرتو مانغويل-.. للمضيّ إلى عالم الأسرار حيث تبدأ الرحلة"، رحلة التكشّف على الحقائق والغيبيّات وطرح الأسئلة المغايرة، ويجب علينا توظيف كلّ حواسنا لاستدراج "الأمل من الأنقاض" على حدّ قول بلحسن الكشو نفسه.

بلحسن الكشو: معرض أنوميا دعوة لمواجهة الاضطراب والفوضى التي نتقبلها باستسلام
بلحسن الكشو: معرض أنوميا دعوة لمواجهة الاضطراب والفوضى التي نتقبلها باستسلام

يطرح الكشو في خزفياته رؤية جماليّة متشعبة ومركّبة، تتراوح بين الذاتي والجمعي وبين الواقعيّ والمنشود، وبين السياسيّ والشعريّ. يؤثّث تكويناته من خلال مجموعة من الألواح الخزفيّة المسطحة والناتئة والتي تتخذ في بعض أشكالها الأخرى منحوتات خزفيّة صغيرة جُمِّعت في تنصيبات تحاكي القبور والتوابيت والأكفان، وعُنونت بأسماء من قبيل "عطر الأمل" و"نبض" و"عبير" و"انتظار".

يدعو الكشو إلى الدخول في جوهر التكوينات الخزفيّة المصغّرة وليس الاستمرار في الدوران حولها، في كلّ ذلك الجنون الذي يحيط بنا، وفي "الشخوص الغرائبيّة وفي الكتل الخزفيّة المتراكمة كالكراسي والصناديق والنوافذ والمومياءات –يقول بلحسن الكشو- أعمالي هي دعوة إلى التدبّر في الواقعيّة المقرفة، ألسنا نعيش واقعا غريبا وسرياليا بكل هذه الفوضى؟".

 يختلّ الفهم للحظات وسرعان ما يعترينا الفضول من جديد لنطرح مجدّدا أسئلة مختلفة حول علاقتنا بالزمن، الموت والبعث؟. تلك الأسئلة ذاتها التي طرحها الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماغو في روايته "انقطاعات الموت"، والتي تحدّث عنها باطراد فلاسفة كديكارت وسبينوزا وكانط ليعلنوا أنّ الأفكار خالدة خلود الكينونة.

أشباح من طين

يحلم بلحسن الكشو في الخزف وبالطين ليقدّم "هازم اللّذات ومفرّق الجماعات"، الموت في شكله الأشدّ رعبا، ذلك الجحيم الواقعيّ في أسواره المشيّدة على رفات المجهولين والمنكوبين وربّما أيضا على أشياء أسطوريّة أثيريّة. تذكّرنا عوالمه بالأشباح التي يمكن أن تسكننا، تماما كالملائكة التي يمكن أن تحلّق بنا إلى النعيم.

يحيلنا الخزف إلى الاختلاف الكامن فينا، بين الحيواني والأخلاقي تتكشف طينة البعض للبعض، بين تفويض النجاسة أو الطهارة سيتجلي قبح البشرية أمامنا عاريا أو ستعلو كلمات "الحق" والانتصار. يذكّرنا كلّ ذلك بتلك الصورة الشعريّة التي يمجّدها الشاعر الأميركي روبيرت فروست في قصيدته "ساعات ممتعة"، صورة بيت مهجور أضحى خرابا ولكنه يستدعي أطلال المتعة الغريبة، تماما كالكراسي الفارغة التي يرصفها خزافنا وتلك الشخوص المترقبّة للجلوس والنفاذ أو التوثّب في كلّ شيء.

ويفضّل بلحسن الكشو أن يقدّم نفسه بوصفه باحثا في مجال الفنّ والتدريس"عشقه الطين وهوسه المعنى" لذلك يُرفق خزفياته بنصوص وخواطر بدت لنا في كثير من الأحيان تتجاوز قدرة الخزف على استيعابها.  ربّما لأنّه يجد السلام في الاستماع إلى كلّ ضجيج العوالم وتتبّع هلوساته الداخليّة.

يقول مارك توين "لن تجد الهدوء أبدا، إن كان مصدر الضجيج أعماقك" فحذاري يا صديقي من التخمة أو من الفراغ، كلاهما في طريقك.

Thumbnail