معتزل الكتابة في الباحة بالسعودية مهمّة للتموضع في المكان والإمساك بحيويته

تعتبر معتزلات الكتابة تجارب هامة مر بها الكثير من الكتاب في شتى أنحاء العالم، إذ يوفر لك المكان سحرا خاصا، كما تمثل اللقاءات بين الكتاب في هذه الأمكنة فرصة لتبادل الأفكار والنقاش المطلوب في تطوير النصوص التي بصدد الكتابة. وهذا ما توفر مؤخرا في معتزل انتظم في مدينة الباحة السعودية.
بدعوة من هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة السعودية، قضيت سبعة أيام مميزة في معتزل الكتابة المقام في مدينة الباحة السعودية.
غاية هذه المبادرة هي أن يعيش الكاتب لحظات من العزلة “الجوهرية” لكل عملية إبداعية ويلتقي بكتّابٍ آخرين منهمكين في ذات الشأن. كانت لهذه التجربة بالنسبة إلي خصوصية وأهمية إضافية تتعلق بمشروعي الروائي الذي أعمل عليه منذ أكثر من عام من الآن.
تجربة المعتزل
أعرّف نفسي ككائن لامكاني، عندي لامبالاة فطرية تجاه “الأماكن” من حيث هي تفصيل مشبع بالواقعية، وبالمقابل عندي إحساس بها كأنها مُعرّفي الخفي الوحيد. أحسّ الأماكن، لا أراها. في أي مكان أكون، أجد نفسي فيه. لا تعلّق، لا حنين لمكان لست فيه، ولا رغبة بترك مكانٍ أنا فيه، وأخيراً وهذا هو السبب الذي يجعل هذه الرحلة القصيرة ذات معنى هو أني أعجز عن وصف المكان.
هذا العجز في الواقع ينطبق على كتابتي، وأعتقد أني لن أتخلص بسهولة من عامل الغموض المكاني، والأمر مستقى من نظرتي نفسها لا من فعالية الأماكن وحيويتها. سؤال المكان هذا صار أكثر أهمية والتعامل معه صار أشد إلحاحاً إثر انشغالي بكتابة رواية عن بدء الخليقة وفيها أهتم بمناقشة وطرح الأسئلة الأولى التي ألحت على أبوينا وهما يخطان خطواتهما الأولى في عالم قذفا إليه بلا تحضير ومعرفة مسبقة. عرفت منذ بداية المشروع أني سأكون بعيدة عن وصف مكانٍ بعينه، لا شيء ملموس في تجربة البشرية الأولى.
لكل هذه الأسباب جاءت تجربة المعتزل بالنسبة إلي مهمّة صغيرة للتموضع في المكان، للمس المكان، للتأكد من حيويته ومن قدرتي على أن أعير له انتباهي.
في روايتي الأولى “ثوب أزرق بمقاس واحد” كنت أسير بمحاذاة الجدار، أعفيت نفسي من محسوسية المكان، حجزت بطلتي في بيتها وجرت الأمور على خير ما يرام لأنه – ويا للراحة التي تهبها الصدفة – بدا الحبس في المكان ضرورة للانطلاق في عوالم لامكانية في مخيلة وعقل الرَّاوية. أما في روايتي التي أنا بصدد كتابتها، وهي سيرة فانتازية لأبوينا آدم وحواء، فقد أقلقني المكان أشد قلق، ليس لأني أصف مكاناً من زمان لا قدرة لي على الوصول إليه، وليس لأني لا أمتلك الخيال الكافي لخلق مكانٍ من العدم، بل لأني بحاجة قبل أيّة واقِعِيّة مكانية إلى ربطٍ رمزيٍّ بالمقدّسِ من الأماكن.
في روايتي هذه أحتاج إلى الإحساس بالمكان، فإن لم يكن بالمعنى الواقعي التاريخي للمكان، فليكن بالمعنى الرمزي المقدس.
خصوصية مكانية
جاءتني الدعوة من هيئة الأدب والنشر والترجمة في وقتها تماماً. كانت فرصة مميزة أن أكون في خضم كتابتي لرواية أبوينا في جو يقربني من الأماكن المقدسة في فطريتها الأولى ومركزيتها الدينية، وأن يرتبط كتابي بشكل أو بآخر بهذه التجربة المميزة.
هذه الخصوصية المكانية بالنسبة إلي أتت كذلك محملة بتجربة ثرية التقيت فيها ببعض الروائيات والروائيين من الكويت والمملكة فتبادلنا هموم الكتابة وتحدثنا باستفاضة عن فن الرواية بإشراف الدكتورة زينب الخضيري.
كان يمكن لزيارة إحدى المكتبات الوطنية في المملكة - لو أتيح ذلك ضمن برنامج المعتزل - أن تغني عملي بطريقة أو بأخرى. لأن أي روائي برأيي، مهما كان مجال اشتغاله وموضوعه، هو باحثٌ في فترة ما من فترات الكتابة.
أما الهدف الأهم - وهو غاية المبادرة - والذي يتمركز حول إحراز بعض الصفاء الذهني لإنجاز شيء من أعمالنا الروائية ومنح أكبر وقت ممكن للكتابة، فقد تحقق لا من خلال الأيام القليلة التي قضيناها في المعتزل فقط، بل بالطاقة الكبيرة التي حُملنا بها عائدين إلى بيوتنا وبلداننا.
أما على مستوى الإنجاز، فقد كانت هذه الفترة عبارة عن عمل مكثّف على تنقيح وشد جسد نَصّي الروائي وسد الثغرات فيه. عملتُ على بعض الفصول أكثر من غيرها، إذ كانت للنصوص ذات الطابع الروحي الرمزي الحصة الأكبر من اهتمامي واشتغالي في المعتزل.