مطلوب حيا .. وميتا

الثلاثاء 2015/12/29

يموت مريض أثناء عملية جراحية بسبب القضاء والقدر، فيحال ملف الطبيب إلى الشيطان ويتم تهديده واتهامه بالعمالة للقدر ويصبح (مطلوب دم). تسقط مواصفات البناء سهواً من مخيلة مهندس أو مقاول صغير لتخدش حياء مبنى بسيط، فتنتفض العشيرة ويخرج رجالها وصبيانها في ثورة عارمة لإلقاء القبض على روح المقاول المسكين الذي ينجح في الهروب ليصبح رقما جديدا في قائمة (مطلوب دم)، يقرر معلّم تقويم سلوك تلميذ فاشل بالنصيحة البريئة فتقوم الدنيا ولا تقعد ويقف قطاع الطرق موقف رجل واحد ليضربوا المعلم المسكين ضربة واحدة تتكفل بإقفال فمه إلى الأبد، لكن الضحية ينجح هذه المرة أيضا بالهروب والاختباء خلف جدار الوطن البارد، ليصبح رقما مضافا إلى قائمة (مطلوب دم).. هذا الاصطلاح الرقيق الذي يشبه عنوان أغنية وطنية رديئة، دخل مؤخرا قاموس الخراب العراقي الذي سودت صفحاته مفردات يتداولها يوميا، شعب مطلوب لمصاص دماء هائل ومخيف غير مرئي ولا تكفيه جرعات مكثفة من الدم.

في هذه الأيام الكالحة، في مدينة البصرة الجنوبية، المدينة التي تنام على منجم من نفط وتصحو على فقر مدقع، ميناء العراق الذي فارقته سفن النجاة، ثغر العراق الذي ضاعت ابتسامته وسط أنهار من الدموع، تنتعش تجارة الموت وتواصل الصراعات العشائرية رقصها البوهيمي على أرواح الأبرياء؛ شوارع تشتعل بالدم والنار وعصابات منظمة وغير منظمة تنتشر في (الدرابين) القديمة مثل جرثومة ملعونة تعيث فسادا فلا ينجو منها زرع أو إنسان، ولا تراعي حرمة الطفل أو المسن، الرجل أوالإمرأة، ثارات، عمليات خطف وانتقامات عشوائية تجري يوميا على (عينك يا تاجر) بعد أن ترك الفراغ الأمني والإداري الذي خلفته الحروب والحكومات المتوالية والمترهلة التي لا تأتي على مقاس أحد، ساحة مناسبة لنمو فطريات بشرية وانتعاش أفكار ظلامية أخذت تنخر جسد المدينة المحتضرة ببراعة وحقد غير مسبوقين.

مدينة، كل من فيها (مطلوب دم)؛ الأطباء، المهندسون، العمال، الحرفيّون، الآباء والأمهات، الأطفال الأبرياء، الفتيات الجميلات، الشعراء والمعلمون، الفقراء، المجانين، الكل مطلوب ليصب من شرايينه دماء سخية قربانا في بركة الكراهية، كي يعيش الجهلة والمتخلفون واللصوص والمرضى النفسيون. حتى الأسواق التجارية والمنازل، صارت ترتدي شارات تهديد فهذا المنزل (لا يباع ولا يشترى) وذاك المبنى (مطلوب عشائرياً)، وعيادة الطبيب الفلاني (مغلقة إلى إشعار آخر).

لم يبق سوى الموتى الذين نجوا بجلودهم من الثارات العشائرية وسلموا أنفسهم راضخين لملك الموت واكتفوا من هذا الوطن بنهاية باهتة لحياة باهتة، ومساحة ضيقة تكاد لا تكفي فراشا أبديا لأجسادهم المتعبة.

لكن ميتا واحدا على الأقل لم يسمح له بالخروج من هذه المحرقة دون شهادة حسن سيرة وسلوك، ولأنه مات ولم يسدد ما بذمته للبعض فقد استقرت ورقة ملطخة بقلم أسود على حاشية قبره مكتوب عليها “مطلوب عشائرياً”، هذه ليست نكتة، هذه شاهدة قبر أحد الفقراء الذي نسي أن يسد عليه باب القبر جيدا وهو ذاهب إلى الأبدية، ولسان حاله يقول: “أغربوا عن وجهي جميعاً.. أريد أن أدخل السنة الجديدة وحدي”.

21