مطاع صفدي العروبة المتجسدة

الأحد 2016/06/12

ما أخبارُ العالم الذي أردنا إعادة تشكيله من جديد، فوق رقعتنا العربية، أرض الأديان السماوية والحضارات الكبرى، الأرضُ التي قذفت بمئات الألوف من الأيدي المتعبة، والحناجر الخرساء، إلى ساحات الكثيرٍ من العواصم العربية وشوارعها الكبرى؛ عالمُنا الجديد والشجاع، على حدّ تعبير الروائي الإنكليزي ألدوس هيكسلي، العالم الذي اجتهدنا طويلاً في رسم صورةٍ ناصعةٍ له، ما أخباره؟ لقد فقدناه كما لو كان محفظةً لا نقود فيها، أو قلادة مزوّرة.

وما فقدناه لم يكن بالقليل حتى لو كنّا قد نسيناه. ولا بأس من التذكير به. لا بأس من أن نقول بأنّ قلّة من العقول هي وحدها القادرة على مراكمة هذا الذي يبدو أننا في طريقنا كي ننساه. وحدها القلة النابغة، والمتميّزة، تستطيع أن تضع أمةً بأكملها على الدرب الحقيقي الذي تسير عليه أمم العالم قاطبة.

وإلى هذه القلّة انتمى نبوغ وتميّز المفكّر، والفيلسوف العربي الراحل مطاع صفدي. الواهب للغة الضاد عصارة فكر العالم، وآخر إنجازاته في مضمار الفكر والفلسفة، ومذاهب الأدب. حقّاً، أين يمكن أن نعثر على عقولٍ أخرى تشابه عقل الراحل مطاع صفدي وما قدمّه من إضافات لأمّة انتمى إليها، ووجد أن واجبه الأوّل والأخير يتمثّل في رفعها إلى مصافي الأمم المعطاءة حضارياً.

ولنتذكّر بأن الراحل كان قد صرف معظم عمره في الاشتغال بالفلسفة. أيْ، بالعلم الأصعب. العلم الذي لا يستطيعه كلّ عقل. فليس سهلاً على الإطلاق أن تعيد من جديد ربط لغتنا العربية التي كانت قد تخشّبت بفعل قرون الانحطاط، أن تعيد ربطها بتراثها كما تجلّى في نتاجات مبدعين كابن سينا والفارابي وابن رشد، وأن تربط ثانيةً تراث هؤلاء التراثيين الناصعين بالفكر الجديد، بتراث الحداثة المتجدّدة.

وككلّ المهمومين بالقضايا الكبرى لأممهم لم يرتض مطاع صفدي لأمته العربية التي آمن برسالتها، بكل خليّة من خلايا دمه، إلاّ الموقع المتقدّم على صعيد المعرفة والتنوير، وإعلاء شأن العقل عبر تعريف عقلها وروحها ولغتها التي تتجلى عبرها للكون البشري، بالأفكار النبيلة في هذا العالم، وبالإنتاجات الفكرية لمبدعيه وفلاسفته أوّل بأوّل.

وهكذا، كانت المجلاّت الفكرية والمنشورات التي أشرف عليها الراحل، في المواقع الثقافية المتميّزة التي أتاحتها له موهبته، وكان ذلك من بين جهود تنويريين آخرين، هو ما أرشد القارئ العربي إلى ينابيع الفكر العالمي. لقد أعطى هذا المفكّر الذي فقدناه بالأمس، وقتاً غير منقوص للأجيال الطالعة، أعطاها زاداً ألهب المخيّلة العربية وفتحها على آفاق الإبداع والانتماء إلى أجمل ما في هذا الكون. ولأنه أحبّ أمته فقد أرادها في قلب العالم لا خارجه، مع الإيقاع المبدع للشعوب لا في الدروب التائهة للجماعات التائهة والمقصاة عن الفعل.

لم يرد مطاع صفدي من الانسان العربي أن يكون أيقونة في متحف الماضي، بل أراده ابناً للحقيقة الراهنة. أراده الآن وهنا. في معترك أفكار العالم الجديد. العالم الجديد والشجاع. العالم الذي بناه العقل، وبإرشاد العقل يسير. ولا يكفي، كما رأى الراحل، أن تكون الكتب القديمة قد تحدثت بأننا كعرب أصحاب مجد. فما أسهل ما يجري تزييف الشهادات. وما أسهل ما يجري احتلال التراثات.

وعندما حلم المفكرون العرب الكبار من أمثال الراحل مطاع صفدي بالإنسان العربي لم يروه، ولا في لحظة من لحظاته، باعتباره ابناً لدين ما، أو طائفة ما، أو حتى ابناً يتأصل انتسابه إلى العربية برابطة الدم فحسب. لقد رأوا في انتمائه لقضاياها الكبرى أساساً وحيداً في استحقاقه للانتماء لها. شرف الانتماء للإنسان العربي الجديد. الإنسان الذي وعد به المفكرون العرب منذ الطهطاوي والكواكبي، وجد تمثيله الأبهى في الراحل الكبير مطاع صفدي. فسلامٌ له.

كاتب من فلسطين

11