مطاردة عربات الطعام في مصر تثير غضب أصحابها ضد الحكومة

يسعى العديد من الشباب جاهدين لطرد شبح البطالة في ظل غياب الوظائف، وذلك ببعث مشاريع صغيرة في عربات متنقلة يقتاتون منها بدل الدخول في طابور البطالة الطويل أو الانخراط في أعمال غير قانونية، لكن هؤلاء الباعة الذين تلقوا الدعم في البداية يواجهون اليوم حزمة من القوانين، إضافة إلى جشع الموظفين في جمع الإتاوات منهم.
القاهرة - حمل التحرك البرلماني في مصر نحو تعديل تراخيص عربات الطعام المتنقلة في بعض الشوارع والميادين العديد من المخاوف لدى قطاع واسع من الشباب الذين وجدوا في مثل هذه العربات مشروعا وملاذا للهرب من شبح البطالة بعدما أخفقوا في الحصول على وظائف مناسبة في القطاعين العام أو الخاص.
ويناقش مجلس النواب بعد انتهاء إجازة عيد الأضحى تعديل الشروط المرتبطة بترخيص هذه العربات المتنقلة، بذريعة تنظيمها لتكون متوافقة مع الشكل الحضاري ولا تؤثر سلبا على المظهر العام للشارع، ومتسقة مع القانون.
وتحرم التعديلات القانونية المقترحة والتي سيناقشها البرلمان باستفاضة، أي شاب مصري يقل عمره عن 18 عاما من ملكية عربة متنقلة لبيع الأطعمة أو المشروبات الساخنة والباردة، مع اشتراط أن تكون موافقات المرور وهيئة سلامة الغذاء والأحياء أساسية مقابل اقتناء عربة وإلا تم اعتبارها مخالفة صريحة تستوجب المطاردة.
ويبرر نواب في البرلمان التحرك الجديد بأن التعديلات التي تُجرى على شروط التراخيص تستهدف فتح مجالات توظيف أمام الشباب بدلا من الاستسلام للبطالة، في حين أن بعض الاشتراطات تبدو تعجيزية وطاردة للشباب، وقد تكون عبئا إضافيا على الراغبين في البحث عن مصدر رزق يومي.
تحصيل الأموال
استقبل الشاب عمر حمدي وهو صاحب عربة لبيع المشروبات بشارع عباس العقاد في القاهرة، التعديلات البرلمانية على قانون العربات المتنقلة بتذمر واستياء واضحين، كونه سيكون أسيرا لموظفي البلدية (الحي أو المنطقة التابع لها)، الذين لا يفرقون بين العربة المرخصة أو غيرها، المهم تحصيل الأموال.
وأكثر ما يثير استياء حمدي الذي تحدثت معه “العرب” أن الحكومة قررت مطاردة من هم أقل من ثمانية عشر عاما وحرمانهم من العربات المتنقلة، مع أن هذه الفئة تضحي بكل شيء للمساهمة في الإنفاق على أسرها لمواجهة زيادة غلاء الأسعار والخدمات، أي أن هؤلاء المراهقين يجب أن تقوم الحكومة بدعمهم وليس مطاردتهم.
◙ البرلمان استقر على تحصيل رسوم سنوية بخمسة آلاف جنيه وهو رقم كبير إذا أضيفت إليه الرسوم المرتبطة بالتراخيص
ولدى حمدي شقيق أصغر يبلغ من العمر 17 عاما ولديه عربة صغيرة لبيع المشروبات الساخنة في الشارع، مثل القهوة والشاي والنسكافيه، وقال “هذا الشاب لم يفكر في المتاجرة بالمخدرات أو العمل في وظيفة غير شرعية، لكنه يكسب من الحلال، فلماذا يُحرم من بيع المشروبات وكأنها من الممنوعات؟”.
ويشتكي الشاب من كثرة الإتاوات التي يدفعها لموظفي الحي التابع له بدعوى أنه يقوم بإشغال الشارع بعربة المشروبات، مع أن غالبية ميادين مصر تعج بالباعة الجائلين، وتصطف فيها العربات الخاصة والعامة وتعطل حركة المرور، لكن ثمة انطباع خاطئ بأن أصحاب عربات الطعام يتحصلون على مكاسب خرافية.
وترتبط مطاردات موظفي المنطقة لأصحاب عربات الطعام والمشروبات بأنهم يشتغلون في مشروعاتهم هذه بلا ترخيص قانوني ولا بد من دفع غرامات مالية، حتى صارت الأموال التي يجمعها شباب العربات تتناقص بشكل دوري، ولم تعد باب رزق معقول يعيلهم وأسرهم، فضلا عن سداد ديون تكبّلهم.
أكبر معضلة تسببت في تنغيص حياة أصحاب العربات المتنقلة أن البرلمان استقر على تحصيل رسوم سنوية منهم بقيمة خمسة آلاف جنيه (نحو 150 دولارا)، وهو رقم كبير إذا أضيفت إليه الرسوم الأخرى المرتبطة بالتراخيص، سواء من هيئات المرور أو سلامة الغذاء أو الأحياء، أي أن كل جهة ستحصّل مستحقاتها.
وحال استقر مجلس النواب على أن تكون وزارة التنمية المحلية هي الجهة الوحيدة الرقيبة على مراقبة نشاط أصحاب العربات، فذلك سوف يقود إلى انتكاسة بين الشباب بحكم السمعة السيئة المأخوذة عن الكثير من موظفي الأحياء الذين يدمنون الحصول على إتاوات، حتى لو كان صاحب العمل ملتزما بكل إجراءات الترخيص.
واتهم النواب قبل أيام الجهاز الإداري الخاص بالمحليات بالتراخي عن ضبط نشاط عربات الطعام المتنقلة في الشوارع والميادين باعتبار أن النسبة الأكبر من أصحابها لم يحصلوا على ترخيص لمزاولة المهنة ولم يدفعوا للدولة الضرائب المستحقة، مع أن هناك أنشطة أخرى خارج الإطار الرسمي تغض الحكومة بصرها عنها.
ولا يمانع الشاب مصطفى عمر وهو صاحب عربة لبيع الفول والطعمية بحي المطرية الشعبي في القاهرة، أن تكون هناك تراخيص لوحدات الطعام المتنقلة، لكن دون تحصيل جباية أو ضرائب مبالغ فيها من أصحابها سنويا، مع حماية الشباب من ظلم موظفي الحي وعدم افتعال أزمات معهم لاقتسام عوائدهم المالية.
واعترف في تصريح لـ”العرب” أن هناك أصحاب عربات يبيعون أطعمة قد لا تصلح للاستهلاك الآدمي، وربما يتم طهوها بطريقة غير صحية، وهذا لا يعني أن الجميع يفعل ذلك، فهناك شباب من خريجي كليات السياحة والفنادق يتفننون في الطهو وإعداد المشروبات كهواية، وجذب الزبائن، فلماذا يُطاردون؟
وقال إنه مع الشروط القاسية للتراخيص والمتحصلات المالية السنوية قد يضطر قطاع من الشباب إلى العزوف عنها، لأنها ستكون بلا جدوى، وبدلا من أن تقوم الحكومة بتشجيع الخريجين على فرص العمل غير التقليدية تطاردهم بغرامات واشتراطات قاسية وتراخيص سنوية باهظة، كأنهم تجار غير شرعيين.
◙ بدلا من أن تقوم الحكومة بتشجيع الخريجين على فرص العمل تطاردهم بغرامات واشتراطات قاسية وتراخيص سنوية باهظة
وسوف يصبح الشاب صاحب العربة ملزما بدفع مبالغ مالية (لم تحدد بعد) تحت مسمى “أجرة إشغال الطريق”، وهو ما لا يستطيع الكثير من العاملين في مجال عربات الطعام المتنقلة توفيره في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وشح الموارد وإلا سيتم تحميل الفارق على المشتري نفسه، بما يجعله قد يحجم عن الشراء.
ورأى كريم العمدة الباحث في الاقتصاد السياسي أن هناك قناعة برلمانية بأن أصحاب العربات يحصلون على مبالغ طائلة، وهذا توصيف غير دقيق للحالة أمام ظروف الشباب الصعبة، والمفترض أن يتم دعمهم لا إثقال الرسوم عليهم، طالما أنهم مكافحون ويبحثون عن مصدر رزق بلا إضرار بالدولة، ويساهمون في حل أزمة البطالة.
وأوضح لـ”العرب” أن ربح الشباب أصحاب العربات المتنقلة يكاد يساعد الأسرة على الوفاء باحتياجاتها الرئيسية أمام الأزمة الاقتصادية الراهنة، لكن عندما يصل الأمر إلى دفع رسوم وغرامات مبالغ فيها فقد يلجأ البعض إلى الكف عن العمل، لأنهم لن يرهقوا أنفسهم دون الحصول على عائد أو دفع معظمه لجهات حكومية.
منافسة المطاعم والمقاهي
فكرة عربات الطعام والشراب وجدت في الشوارع والميادين المصرية لمنافسة سلاسل المطاعم والمقاهي التي تبيع بأسعار مبالغ فيها، لذلك يقبل الناس على العربات المنتشرة الآن، ومع الرسوم السنوية والضرائب المرتفعة سيكون الشاب أمام خيارين كلاهما مر، إما ترك العربة أو زيادة سعر السلعة بما يتناقض مع فكرتها.
وبمقارنة أسعار الوجبات السريعة والمشروبات على العربات مع نظيرتها في المطاعم والمقاهي، فإنها تبدو زهيدة وتناسب شرائح عديدة لذلك يتهافت كثيرون على التعامل معها بشكل أغرى فئة من الشباب لتحويلها إلى مشروع يدرّ ربحا، وأمام تقنين المطاردات وفرض غرامات ربما لن تتغير مكانتها عند كثير من أصحابها.
ويتعامل كثير من المصريين مع عربات الطعام بأنواعها المختلفة باعتبارها تقدم وجبات ذات مذاق خاص لاحترافية العاملين فيها وإعدادهم الأطعمة أمام أعين الزبائن بشكل طازج، خاصة الفول والطعمية وهما وجبتان شهيرتان، ومثل هذه العربات باتت منتشرة ويصطف الناس حولها في طوابير لشدة الزحام والرغبة في الشراء.
ويظهر الإقبال اللافت على عربات الطعام الصغيرة في الوقوف في طوابير طويلة لشراء طبق الفول من على العربة مقابل قلة الإقبال على نظيره في المطاعم الفاخرة أو المتوسطة حتى لو كان بأسعار معقولة، فالأغلبية الشعبية تستهويها الوجبة المقدمة بشكل بدائي ويتناولها الناس في الهواء الطلق أو وهم يجلسون على الأرصفة.
وفي أحيان كثيرة، لا يرتبط إقبال الجمهور على طعام أو شراب العربة بانخفاض الأسعار بقدر ما يتعلق بمتعة تناول المأكولات منها، فهناك سيدات لديهن خبرة ومذاق خاص عند إعداد الطعام ويساعدن أولادهن الشباب في البيع والطهو، أي أن بعض الأسر قد تكون منخرطة في العمل على العربة كمشروع اقتصادي.
ويخشى الشباب أن تقدم الحكومة على فرض عقوبات مبالغ فيها ضد من يرفض ترخيص العربة، لأن نقاشات البرلمان تطرقت إلى إمكانية وصول العقوبة إلى الحبس أو الغرامة بدعوى أن صاحب العربة يرفض الانصياع للقانون وقام بتشغيلها بلا ترخيص قانوني، والمعضلة في الشروط المجحفة التي تدفع كثيرين إلى التهرب منها.
وبررت الحكومة تدخلها لتنظيم عمل عربات المأكولات المتنقلة في الشوارع بأن 95 في المئة من وجبات الفول يتم تقديمها للمواطنين من خلال عربات الشوارع، وجميعها غير مرخصة، ما يلحق الأذى بالناس ويتم تحميل الدولة أسباب التقصير، بالتالي فترخيصها يعد عملية صحية ووقائية.
وإذا كانت الإجراءات الصحية مطلوبة، فهي غير مطبقة على الكثير من المطاعم الفاخرة، وكثيرا ما تضبط وزارة الصحة أطعمة فاسدة ومنتهية الصلاحية داخلها، في حين أنه من النادر تكرار الأمر في العربات المتنقلة، لأنها تقدم وجبات طازجة ومشروبات جماهيرية يصعب التلاعب فيها.
ويبدو أن ترخيص عربات الطعام هو جزء من مخطط حكومي معلن بإخضاع كل الفئات العاملة في القطاع الاقتصادي غير الرسمي للضرائب كنوع من التنظيم الإداري الذي يدر عائدا لميزانية الدولة، غير أن مشكلته أنه يصدم بمعوقات قد تعيد أصحاب العربات إلى طوابير البطالة ما يمثل عبئا مضاعفا على كاهل الحكومة.
ويرى أنصار الحكومة أن الدولة في غنى عن الصدام مع شريحة شبابية تبحث عن الحياة الآدمية بلا ضغوط اقتصادية على الدولة، وهذا يتطلب رد فعل عقلانيا بأن يتم التدرج في التطبيق، فتأخذ الدولة حقها بهدوء وبلا إثارة أزمات جديدة.