مضخات الإفتاء.. من دم البعوض إلى الغلاء

السبت 2017/07/01

في بدايات الصبا، مطلع السبعينات، كنت ألمح أحيانا على جدار هنا أو هناك صورا منتزعة من صحف ومجلات لرجل عرفت، في وقت لاحق، أنني مشيت في جنازته الرمزية، وأن اسمه جمال عبدالناصر. أما الصورة الوحيدة المعلقة بعناية في دار خالي صابر فهي لشيخ جليل لم أبذل وقتا لأعرف اسمه المكتوب “الأستاذ الإمام محمد عبده” الذي توفي منذ 112 عاما (يوليو 1905)، ولكنه وحده يستأثر بلقبي “الأستاذ الإمام”، وبأحدهما إذا ذكر منفردا. وقد أمدتني سيرته وأعماله بتفسير لحضوره العابر للأزمنة.

لم أكن قد قرأت الأعمال الكاملة للإمـام عام 2007 حـين نشرت مقالا عنوانه “المصريون يكتشفون الله”، واصفا المشهد آنذاك بأنه “شديد الإعتام، لا يفتح نوافذ على الخيال، ولا تتسرب من مسامه المغلقة آفاق للتفاؤل؛ ليس بسبب الفساد، وتحالف أصحاب النفوذ مع رجال المال، وشبح توريث الحكم، وتربص الإخوان المسلمين منتظرين أن تسقط الثمرة الناضجة الملوثة في حجورهم، بلا جهد ولا تضحيات.. المشهد قاتم، وأنا حزين ومهموم، لا أستطيع مع قلة عاجزة أن نرمم تصدعات في جسد مجتمع تبدو معظم طبقـاته في حالة من اللهاث وعدم اليقين، فالتمست الراحة الكاذبة بوهم يبدو للمتـابع كأنه إعادة اكتشاف الله. لكنه اكتشاف يخلو من البهجة كما تجري العادة مع أي اكتشاف، بل يرتبط بكثير من الجهامة وكراهية الناس والحياة”، والتماس الطمأنينة بأسئلة عن الحلال والحرام في أمور تنتمي إلى لغو القول.

طمأنتني آثار الأستاذ الإمام، وقد أتيحت طبعتها زهيدة الثمن عام 2008 في خمسة مجلدات تجيب عن أسئلتنا القديمة المتجددة، وتؤكد ثبات الزمن المصري وتراجعه. يكتب مثلا تحت عنوان “جمود المسلمين وأسبابه” عن مفاسد الجمود ونتائجه، وجنايته على اللغة، وعلى الشريعة التي “كانت أيام كان الإسلام إسلاما، سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها”، وعن جناية الجمود على العقيدة، إذ نشأ “سوء الاعتقاد.. من رداءة التقليد، والجمود عند حد ما قال الأول دون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله، وإهمال العقل في العقائد على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة”.

في يونيو 1899 صار الإمام مفتيا للديار المصرية، في أول استقلال لمنصب الإفتاء الذي كان من مهام شيخ الأزهر. وقد رفض تدخل الحكومة في شؤون الأزهر الذي كاد ييأس من إصلاحه. وتحت عنوان “الأزهر والإصلاح” يقول “إن بقاء الأزهر متداعيا على حاله في هذا العصر محال. فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه. وإنني أبذل جهد المستطيع في عمرانه”.

في نحو ست سنوات بلغ عدد فتاوى الإمام 944 فتوى، وهو رقم ربما تضخه دار الإفتاء في بضعة أشهر، تسويغا لقرار سياسي أهوج، أو تلبية لقلق متنطعين يذكّرونني برجل سأل عبدالله بن عمر عن دم البعوض يكون في ثوبه، فلم يجبه، وإنما رد على السائل بالسؤال عن بلده، وكان من العراق. فقال ابن عمر “انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

ولا تتأسى دار الإفتاء بابن عمر، فتنشر صفحتها على الفسبوك فتوى عنوانها “حكم ابتلاع البلغم أثناء الصوم”، وفي موقعها الإلكتروني فتاوى منها حكم إحياء ليلة عيد الفطر بالعبادة، وتسارع إلى ضبط مشاعر المسلمين بعد رمضان، ففي يوم العيد (25 يونيو 2017) تعرّف الماء بالماء، وهي تخبر المسلمين بأن الله “أباح الترويح عن النفس والاحتفال بيوم العيد، ولكن في حدود الضوابط الشرعية”، ثم تقدم فتاوى عن حكم من فاتته صلاة العيد؟ والخروج إلى المتنزهات؟ والتحرش؟ وبالطبع ستخلو الفتاوى من أي إشارة إلى علاقة الاستبداد بغياب العدالة، ومقارنة الانحطاط هنا بمجتمعات خارج “ديار الإسلام” توقن بأنه من حسن إنسانية الإنسان تركه ما لا يعنيه، وتعفف الرجال عن التحرش بامرأة ولو بنظرة وقحة، من دون الحاجة إلى دار للإفتاء.

هل للأمر علاقة بمهنة؟ إذا كان كذلك فلا بد من موظفين يجيدون الإنتاج وتوصيل الخدمة التي تُخلق لها أسواق؛ لإيهام الجمهور بحاجته إلى منتجات يجب ألا تعاني الركود، فتنشر صفحة دار الإفتاء على الفيسبوك أنها تتيح الفتوى من خلال البث المباشر أيام الأحد والاثنين والثلاثاء، وتقدم الفتوى من خلال التليفون “الهاتف” الأرضي داخل مصر، وتخصص رقما آخر لتقديم الفتاوى للسائلين من الخارج. وتمتد الخدمة للموقع الإلكتروني والحضور الشخصي إلى مقار دار الإفتاء في القاهرة والإسكندرية وأسيوط.

مات جدي مسلما صحيح الإسلام وهو لا يعرف أن في مصر دارا للإفتاء. ولم يسمع أبي عن دار الإفتاء إلا بإعلان المفتي في الراديو أن غدا أول رمضان، ويسمع باسمه مرة أخرى وهو يعلن عن حلول عيد الفطر. لم يكن لدى أبي ترف الانشغال بمثل هذه الأسئلة التي تملأ أضابير دار الإفتاء: هل من الممكن أن يرى الإنسان ربه في المنام؟ ما الحكم الشرعي في تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟ ما الرأي الشرعي في رجل متزوج يشك في نبوة آدم عليه السلام.. وما قول العلماء في ردته وعقد نكاحه؟ ما هي أسماء أبواب الجنة؟ ما حكم الزواج في شهر شوال؟ هل البنطال حرام أم حلال؟ هل يجوز تصويت النساء في مجلس شورى لمسجد في بريطانيا؟ ما حكم زواج المرأة الثيب من دون وليّ؟ ما حكم كلام المرأة عبر المذياع وتصريحها باسمها حيث يسمعها الرجال غير المحارم ويعرفون اسمها؟ هل تعليق صورة فتاة غير محجبة توفاها الله ورؤية غير المحارم لها تعتبر سيئة جارية لها؟ هل يجوز للرجل أن يلقي السلام على جماعة من النساء؟

صباح الخميس الماضي (29 يونيو 2017) استيقظ المصريون على كارثة ارتفاع أسعار الوقود، وفي مساء اليوم نفسه لم تتورع الدار عن إفتاء سياسي لا تحيط به علما، ومن دون سؤال قالت إن الصحابة لما اشتكوا إلى الرسول الغلاء “نبههم على أن غلاء الأسعار ورخصها إنما هما بيد الله تعالى”، وفتشوا سنن أبي داود فوجدوا حديثا، وعثروا عند الترمذي على قول الرسول “إن الله هو المسعّر”.

في سعي عبدالناصر المتعثر لتأسيس دولة مدنية ألغى المحاكم الشرعية عام 1955، ومازالت أوراق المقضي بإعدامهم تحال إلى المفتي كإجراء غير ملزم للمحكمة. وظلت دار الإفتاء تشهد خروج المحمل بكسوة الكعبة وبكسوة مقام الرسول، وبمبلغ مالي لفقراء الحرمين الشريفين، وكان آخر إشهاد بخروج المحمل في 26 ذي القعدة 1381 (1 مايو 1962)؛ بسبب خلاف سياسي دفع المملكة إلى عدم التصريح بدخول الكسوة من مصر.

لا تقتصر مضخات الفتاوى على دار الإفتاء، ففي الفضاء والفضائيات انشطارات منفلتة لهواة متحذلقين يؤدون أدوارا في الإلهاء والتخدير العام، وموعدنا معهم في المقال القادم.

كاتب مصري

8