مصطفى عبادة لـ"العرب": الرواية عالم افتراضي مثلها مثل فيسبوك

الشعر العربي استفاد كثيرا من عزلته.
الأربعاء 2023/11/01
نحن في عالم يحتاج إلى فهم واقعه

عالم الصحافة وإن كان يشغل الكثير من الشعراء والكتاب عن تجاربهم الأدبية فإنه يثريها أيضا، إذ يمكن التعايش بين العالمين كما يؤكد الشاعر والصحافي المصري مصطفى عبادة. في هذا الحوار مع “العرب” نلقي مع عبادة الضوء على تجليات تجربته وما يعتمل في داخلها من رؤى؛ بداياتها والمراحل التي قطعتها وتشابكات الشعر والصحافة.

تتمتع تجربة الشاعر والصحافي مصطفى عبادة، التي تمتد على مدار ثلاثين عاما من نهاية الثمانينات حتى الآن، بثراء مستويات عطائها شعرا ونقدا وصحافة، كونها شاهدة ومشاركة بشكل فعال في تحولات المشهد الثقافي والإبداعي المصري والعربي، من خلال ما سطرته من إبداع ورؤى وأفكار وحضور قوي في فعالياته.

بداية يكشف عبادة “لست إلا مواطنا مصريا أنقذته القراءة من مصير قاطع طريق محترف، عرفت طريق العمل في الحقول منذ سن التاسعة، وأنا من مواليد 1965 في محافظة قنا في قرية لا ذكر لها، تعلمت في الكتاب وحفظت القرآن صغيرا وهو ما مكنني من إجادة اللغة العربية، لذلك فضلت كلية دار العلوم على غيرها وتخرجت فيها، ثم أكملت دراسات عليا، لكنني توقفت قبل تسجيل الماجستير، لأنني كنت مطالبا بالإسهام في الإنفاق على نفسي وعلى أسرتي، عملت مدرسا لثلاث سنوات، ثم التحقت بمجلة اليسار التي يصدرها حزب التجمع المصري، وهناك عملت مع صلاح عيسى وفريدة النقاش وحسين عبدالرازق وأمينة النقاش”.

ويضيف “تعرفت على كبار الكتاب في مصر مثل: فوزي منصور والناقد السينمائي المرحوم أحمد يوسف الذي بهرت بطريقته في الكتابة، والكاتب أحمد الخميسي وسمير كرم ومصباح قطب، ولأنني محب ومدمن على القراءة كان اليسار فرصتي لمعارف جديدة أدين بها وبأغلب تكويني الثقافي لمرحلة هذه المجلة العظيمة، والتي عملت من خلالها في أغلب مطبوعات اليسار المصري، وبالمناسبة اليسار يهتم بالفكر كثيرا حتى أنني أعتبره فكرة ثقافية بالأساس أكثر منه ممارسة عملية. وفي عام 1999 التحقت بمؤسسة الأهرام ومنها بدأت حياتي تتغير”.

ويتابع “رغم حبي الشديد لليسار فإنني وجدت نفسي في الأهرام، وفي مجلة الأهرام العربي تحديدا مع الأستاذ أسامة سرايا الذي كان يعطينا الحرية الكاملة في كتابة ما نريد، وكان يحرص على تدريبنا، بل كان يحرص على أن نقرأ جميع الصحف والمجلات المصرية والعربية يوميا قبل أن نبدأ أي عمل، كنوع من التنمية الذاتية. وكان يطالبنا بتلخيصها أحيانا، كما أن الأهرام أهم مؤسسة في الشرق الأوسط، وأتاحت لي الاستقرار على جميع المستويات”.

الرواية والعالم الجديد

الشاعر يكتب منذ ثلاثين عاما وقد حول عمله الصحفي إلى فرصة لكتابة موضوعات متصلة في سياق واحد
الشاعر يكتب منذ ثلاثين عاما وقد حول عمله الصحفي إلى فرصة لكتابة موضوعات متصلة في سياق واحد

يلفت عبادة إلى أن الصحافي ظلم الشاعر في تجربته، بدليل أن بين ديوانه الأول والثاني عشرون عاما. ويقول “هي مصادفة تاريخية، أن ديواني الأول صدر 2002، والديوان الثاني صدر 2022، أنا فيما يتعلق بالكتابة والنشر كسول جدا، لكنني على العكس من ذلك فيما يتعلق بالقراءة أو التحصيل. أنا أحب القراءة أكثر من الكتابة بمسافة لا يمكن أن تقاس، الكتابة في تصوري مسؤولية، وإذا لم يكن لدي جديد، أو إحساس قوي جدا بالقصيدة التي أكتبها، فلا أكتب. وكثيرا ما أكتب قصائد، ربما تصل إلى العشرات والمئات، وأقوم بإلقائها في سلة القمامة، لأني لست راضيا عنها”.

ويتابع “من كثرة ما قرأت، وأنا أزعم أنني دودة كتب، من شعر وروايات وكتب فكرية أصبح إرضائي صعبا على مستوى الكتابة، أصبحت أعرف الكتاب الرديء من الكتاب الجيد من أول فصل فيه، وأحيانا أشعر باكتئاب شديد جدا، لأنني لا أجد الكتاب الذي يُشبع فضولي”.

ويرى عبادة أن الشعر العربي بشكل عام أفادته عزلته خلال السنوات الأخيرة، في أنه اقترب من نفسه كثيرا بعد أن كان يعاني من العاطفية والغنائية؛ قصيدة النثر أصبحت تكتسب بعدا دراميا عميقا، وتعبر عن واقع شعرائها أكثر، وهذا في رأيي من فوائد أن الشعر أصبح معزولا، أو خارج السياق العام، أي المجال الذي هيمنت عليه فنون السرد. لكن ليس للهيمنة السردية أي فائدة أخرى، بل على العكس هي مدمرة، وأصبح الذهن العربي ذهنا حكويا لا يفكر، ولا يستطيع أن يفهم مشكلاته إلا في ظل علوم السرد.

وينفي أن يكون ذلك موقفا من فن الرواية، ويوضح “لدي تصور أعمل عليه منذ فترة، وقد كتبت أكثر من مقال في هذا الصدد، أذكر مقالا نشرته في جريدة الأهرام بعنوان “في محبة أدعياء الأدب”، وهو أني لست ضد الرواية، لكنني ضد أن تكون هي النوع الوحيد المهيمن على المناخ العام، لأن هناك علوما أخرى جديرة بأن تكون في المقدمة. الرواية بنت المدن الصناعية والحضارات المتقدمة، وهي عالم افتراضي مثل فيسبوك تماما، وليس غريبا أنها وصلت إلى ذروة المقروئية مع هيمنة فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي. كل هذه الظواهر سوف تنتهي قريبا، وسوف يعود العقل العربي إلى مجالات التأليف العميقة”.

ويبين أن هناك علوما تفسيرية عظيمة جدا لفهم مشكلاتنا في العالم العربي، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الأفكار والنظم السياسية وغيرها، هذه العلوم أصبحت محصورة في الجامعات وقاعات المحاضرات، ولا تخرج إلى الذهن العام، وأصبحنا أمام انتشار ثقافة يُصدَّر منها الجانب التافه والسطحي، الذي لا يستطيع الصمود لمدة يومين أمام أي فكرة أخرى.

ويقول عبادة “أريد أن ألفت النظر إلى أن الذين صدروا لنا فكرة أن الرواية هي فن العالم وأقاموا لها الجوائز سواء أكان ذلك في مصر أم في الوطن العربي أم في العالم كله -لاحظ أن كل الجوائز هي جوائز رواية- لديهم حركة تأليف أخرى، غير الرواية، باهرة ومتقدمة جدا. وما يلفت النظر مثلا أن أعضاء حركة التأليف التاريخي في المملكة المتحدة وأميركا لديهم من البحوث والكتابة والفحص التاريخي آلاف الكتب التي تصدر بطريقة يعجز الإنسان وتعجز مؤسسات كبرى عن متابعتها، ومنها مثلا تاريخ السير الذاتية، وهي الكتب التي ترصد سير الزعماء والكتاب، وتاريخ نضالات السود في أميركا وأوروبا ومساهماتهم الفكرية، وكيف شكل تنوعهم ما عليه الحضارة الأميركية الآن، وهناك علم النفس الذي في رأيي تم انتهاكه بما سمي علوم التنمية البشرية، وهذه أيضا عالم افتراضي مثلها مثل فيسبوك والرواية”.

ويشدد عبادة “نحن في عالم يحتاج إلى فهم واقعه وفهم علاقته بالآخرين بشكل قوي، ولن نفعل ذلك إلا بعلم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الأفكار والنظم السياسية. ومن الملاحظ أن علوم الاجتماع الجديدة -مثلا- وتطوراتها تأتي من أميركا اللاتينية، تحديدا من البرازيل والأرجنتين، في حين أننا كنا أولى بهذا الأمر. استجبنا لمقولة إن علم الاجتماع انتهى مع نهاية علم النفس، وعلوم الاجتماع هذه هي العلوم التي كانت سائدة وقتها، وتم تصديرها لنا على أنها من مخلفات الحرب الباردة التي انتهت”.

ويرى أننا الآن أمام حرب باردة جديدة محورها روسيا وأوروبا وأميركا في مواجهة الصين، وهناك كتاب عنوانه “عالم حر” (Free world) لمفكر أميركي هو لويس ميناتد، كرمه باراك أوباما عام 2015، يقول إن الحرب الباردة أنتجت علوما وثقافات في مواجهة الاتحاد السوفييتي، فهل تنتج الحرب الباردة الجديدة مع الصين علوما وثقافات جديدة؟

الصحافة والكتابة

pp

يقول عبادة “قد يكون انشغالي بالأفكار وبالواقع السياسي العربي وتاريخ الحضارات، قد صرفني بعض الشيء عن الشعر، ولو أني أرى أن ما أفعله شعر، أنا فقط أوسع مفهوم الشعر ليشمل كل ما يخص الروح الإنسانية، ومع فكرة أن الشعر مُتسرب أسفل الصخور الكبيرة، هناك سراسيب ماء تحت الصخور، هي ما أحاول أن أعثر عليه”.

ويضيف “لن يصدقني أحد ولا أنت لو قلت لك إن الصحافة كانت حلم عمري، وإنني كنت أعشق قارئي نشرة الأخبار في التلفزيون المصري، وكنت أتمنى أن أصبح مثلهم، وعندما كنت في المرحلة الثانوية بدأت الانتظام في قراءة الصحف يوميا وكنت أعرف جميع الكتاب خصوصا كتاب الأعمدة، ثم بدأت أتابع المجلات مثل مجلة العربي ومجلة الدوحة، إلى أن تعرفت إلى الصديق إسحاق روحي الفرشوطي رئيس تحرير منبر التحرير الآن، ومنه استعرت الكثير من الروايات والكتب وانفتح أمامي باب كبير ودنيا جديدة، ومنذ هذه اللحظة لا يسعدني شيء إلا كتاب جديد، وأفرح كالأطفال عند كتابة موضوع جديد، ومازلت رغم هذه السن أفرح برؤية اسمي منشورا على موضوع جديد”.

ويرى عبادة أن “الكتابة الصحفية باقية ومستمرة سواء بشكل تقليدي ورقي أو إلكتروني، المهنة مستمرة إلى الأبد، أما الصحافة الورقية فوضعها ضعيف ومستقبلها في علم الغيب، منذ عشر سنوات كنت أقف مع العشرات ننتظر وصول الجرائد، الآن أمر يوميا على الباعة وأرى أكوام الصحف كما هي حتى أن مهنة بائع الجرائد تكاد تنقرض. ورغم حزني على هذا المصير، فإنني متفائل جدا، ذلك أن البشرية كلها وضعت مشاعرها وذكرياتها وأحلامها وأفكارها وكل ما يخصها على شبكة الإنترنت، وهذا في رأيي غاية في الخطورة، فماذا لو أن الغرب في إطار حربه معنا منع عنا هذه التقنية؟ دعك من هذا، ماذا لو لا قدر الله حدث عطل لا يمكن إصلاحه بشكل عاجل؟ أين يذهب كل ما يدل علينا؟ سيصبح القرن الواحد والعشرون قرن النسيان”.

من فوائد عزلة الشعر أن قصيدة النثر أصبحت تكتسب بعدا دراميا عميقا وتعبر عن واقع شعرائها أكثر

وحول كتبه، مثل “الخطاب الإسلامي” و”30 يومًا في المُستقبل”، وبداية تجربته مع الكتابة يقول عبادة “أكتب منذ ثلاثين عاما وقد حولت عملي الصحفي إلى فرصة لكتابة موضوعات متصلة في سياق واحد؛ بمعنى أن كتاب ‘الخطاب الإسلامي – أعشاب ضارة وبيزنس’ نشر في الأهرام العربي على حلقات وفزت عنه بجائزة دبي للصحافة الثقافية عام 2016، أما كتاب ’30 يوما في المستقبل’ فهو رحلتي إلى الصين التي أعشقها وفيه دونت كيف رأيت المجتمع الصيني وثقافته وفكره، وهو من أحب الكتب لدي وطبعته الأولى نفدت والثانية في الطريق”.

ويتابع “لن أتوقف عن إصدار الكتب ففي معرض القاهرة المقبل للكتاب سيصدر كتابي ‘الاقتراب من العمق.. أفكار ودراسات حول الثقافة الصينية’، عن مؤسسة بيت الحكمة، وهو الكتاب الثاني في تجربة الصين، ولدي خمسة كتب جاهزة للطبع، لكنني حريص بشكل خاص على التأني، فأنا أنحاز إلى الكيف لا الكم، ولأنني أعرف أن البعض من الأصدقاء الصحافيين يقومون كل فترة بتجميع مقالاتهم وحواراتهم ونشرها في كتب، دون حتى مراجعتها أو تحديثها”.

ويلفت إلى أن كتابه “30 يومًا في المستقبل” ينطق بحبه للصين، ويقول “حبي للصين أولا، لا بل عشقي لها، وكنت من أوائل الصحافيين في جيلي الذي اهتم بالثقافة الشرقية، ولدي موضوعات كثيرة حول الأدب الشرقي مثل الأفغاني والباكستاني والصيني، وجاءتني دعوة للسفر إلى الصين وهناك رأيت الأمر على الواقع وسجلته في كتابي ’30 يوما في المستقبل’، هذه الدعوة كان يقف وراءها أحد أهم الفاعلين الثقافيين في التبادل الثقافي والمعرفي بين العرب والصين وهو الأكاديمي أحمد السعيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة بيت الحكمة”.

وختاما كصحافي وشاعر، يرى عبادة أن الإعلام المصري الآن أصبح مطية لأنصاف المواهب والجهلاء، لمن صاروا مذيعين بالواسطة أو الاحتيال، هو إعلام عدم المعرفة والاستسهال، صارت الشهرة غاية الجميع، أما الصحافة فمازالت تقاوم أو بعضها على الأقل. ومن وجهة نظره، يرى أن من أبرز الأمُور التي يجب توافرها لخلق إعلاميين وصحافيين مُميزين: التدريب أولا والاهتمام بالثقافة العامة والاعتماد على الموهبة، قائلا “لو أن الأمر بيدي لقررت على الصحافيين قراءة 5 كتب في الشهر، وألف كتاب في جميع المجالات قبل البدء في العمل”.

13