مصطفى رحمة.. بلغة الأطفال اخترق الزمن

هل يمكن لرسام الأطفال أن يتخلى عن مرحه وشغبه البريء من أجل أن يرسم للكبار الذين يقفون على الضفة الأخرى؟ أمر هو في غاية الصعوبة لن يلجأ إليه الرسام إلا مضطرا. هناك حاجة داخلية ملحة تدفعه إلى القيام بتلك المغامرة غير المضمونة النتائج.
ذلك ما فعله المصري مصطفى رحمة الذي عرف طريق الشهرة ليس من خلال رسومه الموجهة إلى الأطفال فحسب بل وأيضا باعتباره مؤسس مجلات وصاحب مشاريع كبيرة في ذلك المجال وحامل جوائز عديدة.
لغة الخلاصات المترفة
قفز رحمة من عالم إلى آخر لا يشبهه في شيء، لا بسبب اختلاف المتلقي وحده بل لأن الأسلوب والهدف والتقنيات قد اختلفت هي الأخرى. ما من شيء مشترك بين العالمين. فإن كان المرء بغض النظر عن عمره هو طفل كبير بتعبير مجازي فإن الطفل ليس رجلا صغيرا. إنه كائن يحمل أسئلة كونية من طراز خاص. كل طفل هو استثناء. وهنا تكمن خصوصية اللغة الفنية التي يستعملها الرسام من أجل إقناع كل طفل بأنه رسامه الخاص.
لم يكن رحمة محرجا حين تحوله عن الرسم الموجه إلى الأطفال في عملية التحقق من وجود خط فاصل بين العالمين. فهو لم يدر ظهره تماما لماضيه. تلك خيانة لا يحتاج إليها الباحثون عن الجمال.
لا تزال لوحته تحمل الكثير من الصفات التي تشدنا إلى الطفولة بالرغم من أن خطابها صار يلتقط مفرداته من مكان آخر. في لغته الكثير من الترف الذي يذكر بالأحلام. وهو إذ يكتفي بخلاصات الحكاية فإنه يحرص على أن لا تكون تلك الخلاصات مجرد واجهة أو تمهيد. فالرسام يهبنا فرصة من خلال نسائه البدينات لكي نتخيل ما سعى إلى إخفائه. وغالبا ما يكون رسام الأطفال طفلا متمكنا من أدواته في التعبير. ذلك الطفل انتقل في حالة رحمة إلى مكان آخر فصار يرينا المرئيات بطريقة مختلفة.
وريث التجريب المصري
ولد رحمة في الدقهلية عام 1952. لم يتعلم الرسم مدرسيا بل اعتمد على موهبته وطورها من خلال اهتمامه بالرسم للأطفال وفن الكاريكاتير. ساهم في تأسيس مجلة “ماجد” الإماراتية الموجهة للأطفال عام 1979 وابتكر عددا من شخصياتها التي استمر في رسم حكاياتها لثلاثين سنة.
لغته فيها الكثير من الترف الذي يذكّر بالأحلام. وهو إذ يكتفي بخلاصات الحكاية فإنه يحرص على أن لا تكون تلك الخلاصات مجرد واجهة أو تمهيد
كما زين عددا كبيرا من كتب الأطفال برسومه وكان البعض منها من تأليفه أيضا. عمل رسام كاريكاتير في جريدة “الاتحاد” الإماراتية ومجلة “صباح الخير” القاهرية. أقام معارض شخصية عديدة بين الإمارات والقاهرة، يمكن الإشارة إلى معرض أقامه في المجمع الثقافي بأبوظبي عام 1996 باعتباره بداية للعرض العام. بعد ذلك المعرض أقام معارض عديدة كان أهمها معرض حمل عنوان “مزاج” عام 2017 و”جمهور الست” عام 2018 في قاعة بيكاسو بالقاهرة.
نال رحمة جائزة الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود كما أنه نال جائزة القطاع الثقافي بالشارقة عام 1994، بعدها حصل على جائزة المجمع الثقافي عام 1996 وفي عام 2004 حاز على جائزة الكتاب بدار الأوبرا المصرية.
لرحمة أسلوبه الخاص في الرسم للأطفال وهو وريث مدرسة عريقة بدأت في مجلة “سمير” مع “بيكار” الذي يعتبر الأب والمعلم لكل رسامي الأطفال في مصر، فهو الذي حررهم من الأسلوب التقليدي الذي كان متبعا في مجلة “ميكي” التي كانت تتبع أسلوب رسامي مدرسة والت ديزني. وكان من شأن التوسع في مجال ثقافة الأطفال الذي شهدته سبعينات القرن الماضي أن يهب رسامين شبابا مثل رحمة فرصا لإثبات جدارتهم وتجريب أساليبهم الفنية وصنع ذائقة فنية جديدة لأطفال هم اليوم في الأربعين من عمرهم ولا تزال مغامرات “كسلان” الشخصية التي ابتكرها رحمة تسكن ذاكرتهم.
المرأة بجموحها الخيالي
المرأة التي يرسمها رحمة هي امرأته بالأسلوب غير أنها ليست كذلك بالفكرة. أحيانا يمكن تذكر بيكاسو أسلوبيا غير أن ما لا يمكن إغفاله أن تلك المرأة البدينة كانت مثيرة للشهوات في الفكر العالمي. ولو عدنا إلى الشعر العربي القديم لاكتشفنا أن جمال المرأة يكمن في بدانتها. ربما الإشارة إلى تجربة اللبناني حسين ماضي في إمكانها أن تقرّب الفكرة. رحمة قريب من ماضي أكثر من قربه من الكولومبي بوتيرو. الإثنان أي ماضي ورحمة متأثران ببيكاسو.
"هوانم زمان"، وهو عنوان أحد معارضه، يوحي بأن حكايته مع المرأة إنما تخترق الزمن في محاولة للتعرف على الأسطورة التي شكلها وجود المرأة
إذا قلنا إن الطابع المرح هو ما يميز وجود كائنات رحمة فإن ذلك وصف خارجي ربما أراده الفنان أن يكون تمهيدا لاستدراج المتلقي إلى احتفالية يقيمها من أجل إقناعه بأن العالم لن يكون جميلا إلا عن طريق الغزل، وهو غزل فاتن يتخطى العناصر التكوينية للأنثى التي تبدو كما لو أنها حضرت من أجل الرسم ومن أجل أن تسعد الرسام بحضورها. هي أشبه بـ”الموديل” الخيالي. لذلك تحضر أشياؤها وحكاياتها معها لتؤكد انتسابها إلى عالمنا.
“هوانم زمان”، وهو عنوان أحد معارضه، يوحي بأن حكايته مع المرأة إنما تخترق الزمن في محاولة للتعرف على الأسطورة التي شكلها وجود المرأة وهي تظهر باعتبارها علامة على التحولات الحضارية التي شهدتها المرأة. أليس من حقه وهو يستعيد تلك الصور أن يثني على الحضارة الأنثى؟ رحمة يستعيد زمنا كانت فيه الأنثى واحدة من أهم علاماته.
نغم الست الذي لا ينقطع

قرر في معرضه “جمهور الست” أن يقف في مكان غير المكان الذي وقف فيه الرسامون العرب الذين رسموا الست. كانت أم كلثوم هي الموضوع بالنسبة إلى جورج بهجوري وعادل السيوي وهدى لطفي وأسعد عرابي وهيلدا الحياري بحيث لم ينظروا إلى أي شيء سواها. انحصر عالمها بها. غير أن رحمة سعى إلى أن ينظر إليها من جهة مختلفة. لقد نظر إلى جمهورها ليستعيد زمانها. ولكنه ألقى خطوة في طريق فتحته أمامه فكرته عن المرأة الأسطورة والحضارة الأنثى.
لقد سلط الضوء على النساء اللواتي كن يحضرن حفلات الست بكامل أناقتهن ليؤكدن حضور المرأة في المجتمع المصري الذي كان يغادر زمنا ليصنع زمنا يليق بانتقاله إلى العصر الحديث. كان جمهور الست نسائيا. الرجال منه كانوا يؤمنون بحضور المرأة. كانت روح الأنوثة طاغية. وهو ما سعى رحمة إلى إبرازه وهو المنذور لقول الحقيقة. وقد التفت رحمة إلى جمهور الست ليلتقط صلة جمالية انقطعت.
“جمهور الست” هو الشاهد على حضور المرأة باعتبارها عنصرا أساسيا في الصورة. ما التقطه رحمة لم يكن لحظة فالتة من التاريخ. لم يلعب في مساحة محظورة. كل ما فعله أنه أعاد النظر في صور حقيقية. لقد اكتشف ضالته هناك. لقد قبض على نغم الأنوثة في أجساد كانت تحلق متأثرة.
رسم رحمة متأثرا بعالم الأطفال. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أنه استطاع أن يخلق عالما هو في حقيقته نوع من المزيج من الأنوثة والذكريات الشخصية. ذلك عالم يمتحن قدرتنا على فهم المرأة باعتبارها مصيرا كونيا. لقد بنى الرسام المصري على الحكاية المحلية أسسا لحكايات يمكن العثور عليها في التراث العالمي. تلك هي صورة أنثاه المطلقة. الأنثى التي رآها في جمهور الست فصار يتخيل وجودها في كل مكان.
صورة ستأخذ البيت معها إلى المنافي كما لو أن كل شيء لا يمكن استعادته إلا عن طريق الخيال، خيال الرسام الذي قرر أن يستفز الصور القديمة.