مصر تنخرط في معادلة التطبيع الجديدة مع التمسك بالورقة الفلسطينية

التحولات الجارية في المنطقة في علاقة باتفاقات السلام مع إسرائيل، تدفع القاهرة إلى تغيير مقاربتها في التعاطي مع تل أبيب، والارتقاء بمستوى العلاقات إلى التعاون الإستراتيجي مع السعي إلى الحفاظ على الورقة الفلسطينية.
القاهرة – تتبنى مصر حلا وسطا في التعامل مع القضية الفلسطينية يجمع بين عدم التخلف عن الأطر الجديدة للتطبيع وروافده المتعددة، وإحياء تقاليد عملية التسوية السياسية القائمة على قرارات الشرعية الدولية، أملا في الحفاظ على دور محوري في أي مستجدات على الصعيدين.
وظهرت مؤشرات التفاعل مع ملف التطبيع من خلال ما كشفت عنه وسائل إعلام إسرائيلية، الاثنين، عن زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال الأسابيع المقبلة.
وأوضحت صحيفتا “جيروزاليم بوست” و”معاريف”، أن محور المحادثات ينصب حول القضايا الاقتصادية، ويليها لقاء بين وفود اقتصادية، مؤكدتين أن مسؤولين من البلدين يجرون “حاليا محادثات قبل زيارة نتنياهو الرسمية للقاهرة”.
وبدت ملامح الخيار الثاني التقليدي، في الاتصالات التي جرت بين كل من القاهرة وعمّان مع السلطة الفلسطينية بعد فترة انقطاع، والتفاهم حول تشكيل لجنة مشتركة لدعم عقد مؤتمر دولي للسلام العام المقبل، لاستعادة المفاهيم المتعلقة بحل الدولتين.
وتتناسب هذه الفكرة مع القناعات التي أبداها الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، وقد تجد صدى إيجابيا لدى إدارته الممتعضة من تصرفات كثيرة انتهجتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في المنطقة والعالم، وبينها القضية الفلسطينية.
ويقول مراقبون، إن القاهرة لم تكن مرتاحة للتطورات المتسارعة في العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية على قاعدة ما يسمى بـ”اتفاقيات أبراهام”، لأنها تفرغ ملف التطبيع من مضمونه كورقة كانت القاهرة تعتبرها مخزونا إستراتيجيا لها.
وجمدت مصر جزءا من علاقاتها مع إسرائيل، ولم تسمح بتحويلها إلى صورة طبيعية على مدار أربعة عقود من توقيع اتفاقية السلام بينهما، ووجدت في الرفض الشعبي لفكرة التطبيع ملاذا منحها هامشا جيدا للمناورة في بعض الأوقات.
ويمثل سقوط هذه الورقة، أو على الأقل تراجع مفعولها عربيا ومصريا، اختبارا أمام القاهرة، فإما أن تواصل عزوفها عن تطوير العلاقات مستندة إلى تضخيم الرصيد الشعبي في هذا المضمار، أو تساير التطورات وتحجز مكانا في قطار التطبيع الجديد.
ويشير متابعون إلى أن الطبعة الحالية منه تتجاوز المعاني الشعبية والمتاجرة بها، لأنها قطعة من مشروع إقليمي كبير قابل للنمو والتوسع، ومن يلتحق به سوف يصبح جزءا فيه، ومن يريد التخلف عنه فهو اختياره الإستراتيجي.
ولأن القضية الفلسطينية محور مهم في هذا المشروع، وجدت القاهرة في التفاعل معه بحذر صيغة مناسبة، فقد أبدت ترحيبا ظاهرا باتفاقيات السلام العربية وإسرائيل، لكنها تتوجس من عواقبه بالنسبة إلى دورها الإقليمي.
ويعد الإعلان عن زيارة نتنياهو للقاهرة واتمامها دلالة على استدارة مصرية حيال مشروع التطبيع، خاصة أن المعلومات التي نشرتها “معاريف” شددت على الطابع الاقتصادي، والذي سوف تترتب عليه نتائج جيوسياسية مستقبلا.
وكشفت مصادر مصرية لـ”العرب”، أن الأزمة تكمن في التحولات المتوقعة، ومكانة القاهرة فيها، فهي أول دولة عربية وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتحملت ضريبة باهظة عندما قررت غالبية الدول العربية مقاطعتها، ولا تعرف مكانتها القادمة.

وأضافت المصادر ذاتها، أن خيار الحرب توارى من الأجندة العربية، والصعود متاح للسلام وما يترتب عليه، وبالتالي لن تستطيع القاهرة القيام بدور مؤثر في محيطها أو على مستوى القضية الفلسطينية ما لم تشارك في المعادلة الجديدة.
ومن مصلحة الدول العربية المنخرطة في التطبيع وإسرائيل التعاون والتنسيق مع القاهرة، وأن تكون معهم في القارب نفسه، حيث يمنح وجودها مشروعية سياسية جيدة للفكرة، لأنها الدولة الملاصقة لإسرائيل التي يمكنها مناكفة المشروع.
ويسير المنهج المصري في مسار عملي في التعامل مع المعطيات الإقليمية والدولية، وحقق من وراء ذلك منافع كبيرة، وتحاشى التعرض إلى مضايقات عقب فترة التحول وترتيب هياكل الدولة بعد سقوط حكم جماعة الإخوان، وهو المنهج الذي مكن القاهرة من إقامة علاقات متوازنة مع قوى عديدة.
ويؤكد متابعون، أنه ليست هنالك مشكلة في العلاقات مع إسرائيل وتطوير ملف التطبيع، لكن المشكلة تكمن في وضع مصر في المنظومة المقبلة، بما يتناسب مع حجمها ودورها المحوري في المنطقة، وهو ما تحاول تعظيمه من خلال المشاورات مع الدول العربية المعنية بالتطبيع، لتكوين شبكة أمان للجميع، بحيث لا تكون إسرائيل المنتصر الوحيد في المعركة السياسية والاقتصادية القادمة.
وجاء إحياء القاهرة لاتصالاتها مع السلطة الفلسطينية والأردن كشبكة أمان أخرى تجد فيها الأطراف الثلاثة مصلحة، ويتعزز نفوذ مصر في الورقتين، فكلاهما غير واضح الطريق الذي يمكن أن يصل إليه، والمنطقة تعيش أجواء ملتبسة في غالبية القضايا.
مسؤولون مصريون وإسرائيليون يجرون حاليا محادثات قبل زيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المرتقبة إلى القاهرة
وتنطوي المقاربة المصرية على العمل بالتوازي على المستويين، وهي طريقة تؤكد صعوبة الاختيار، أو عدم وجوده أصلا، فلم يعد من الرفاهية النكوص عن قطار التطبيع، ويصعب الانتظار إلى حين تحرك التسوية السياسية من خلال مؤتمر دولي.
وتبدي القاهرة تجاوبا حذرا في الأول (التطبيع) من دون إعلان الرفض، وتجاوبا كبيرا مع الثاني (التسوية) كوسيلة لضمان حضورها والحفاظ على نفوذها.
وقال الخبير في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية أحمد فؤاد أنور، إن القاهرة تميل دوما إلى التريث في تحركاتها، وتتجنب المغامرة في القضايا التي تتسم بدرجة عالية من السيولة وتتحكم فيها أطراف عدة، لكنها لن تقبل بتجاوز دورها، لأن طريقي التطبيع والتسوية يمسان وترا إستراتيجيا يتعلق بمركزية دورها في الملف الفلسطيني.
وأضاف لـ”العرب”، أن الوقت لا يزال طويلا لاستشفاف النتيجة النهائية من دون أن يكون هناك تعارض بين الطريقين، وهي الصيغة المرضية لمصر والدول العربية الداعمة للتطبيع، لأن حل أزمة التناقض بين الالتزامات العربية حيال القضية الفلسطينية والتطورات الإقليمية مسألة في غاية الأهمية.
وتعمل القاهرة على إيجاد صيغة مناسبة لحل هذه الأزمة عبر محادثاتها المتعددة مع الأطراف المعنية، بما يحقق الفائدة المرجوة، ويقلل من خسائر أي عربية.