مصر تغلق الباب الخلفي للتطرف بفتح الكتاتيب تحت رقابة حكومية

بإحياء الكتاتيب ووضعها تحت الرقابة الحكومية، سحبت القاهرة أماكن يرتادها المصريون بكثرة من التيار السلفي المهيمن عليها. ويستثمر السلفيون الكتاتيب في بث الفكر المتطرف لدى الناشئة بعيدا عن الرقابة.
القاهرة - تخلّت الحكومة المصرية عن حذرها في ملف عودة الكتاتيب (المدارس القرآنية) وقررت أن تحييها مرة أخرى تحت مظلتها ورقابتها، دون أن تكون هناك كتاتيب تابعة لتيارات إسلامية، كخطوة تستهدف وضع حد لتجنيد المراهقين والشباب والوصول إلى أسرهم، وأصبحت دور تحفيظ القرآن تابعة لوزارة الأوقاف.
ووضعت المؤسسة الدينية في مصر قبل سنوات معايير واشتراطات صارمة للراغبين في فتح كتاتيب، لكن الحكومة لم تكن مستريحة لعودة دور تحفيظ القرآن بعيدا عن أعينها، فقررت التضييق عليها ثم رأت ضرورة إحياء مشروع الكتاتيب تحت رقابة وإشراف ومتابعة دقيقة من وزارة الأوقاف.
وقال أسامة الأزهري وزير الأوقاف إن عودة الكتاتيب مشروع وطني يعزز القيم الدينية والوطنية لدى الشباب والمراهقين ويحميهم من الفكر المتطرف، وهي خطوة دعمها وأيدها نظير عياد مفتي الجمهورية، بحجة أن عودة الكتاتيب تحت مظلة رسمية يحمي المجتمع من الأفكار المنحرفة التي قد تتسلل إلى الشباب.
ويبدو أن المعايير التي حددتها الجهات الدينية الرسمية للراغبين في العمل كمحفظين للقرآن، أو المتقدمين لفتح كتاتيب، لم تنجح في تطهير الملف من العناصر المتشددة، رغم اشتراط خضوع هؤلاء لاختبارات فكرية ونفسية وسلوكية والتحري عن توجهاتهم وانتماءاتهم لتيارات دينية متطرفة أم لا.
وأظهر التعامل الرسمي مع ملف الكتاتيب أن الأمر يتجاوز مجرد توصيل رسالة سياسية للشارع بأن الحكومة لا تتجاهل المدارس القرآنية، مع إعلان وزارة الأوقاف أن العام المقبل سيكون ذهبيا بالنسبة للكتاتيب في مصر، وهناك دعم لا محدود للفكرة من مختلف المؤسسات الدينية عبر توفير أزهريين وسطيين.
وتتسق الخطوة مع سعي الحكومة للسيطرة الكاملة على الفضاء الديني، حيث اعتادت التحرك في هذا المسار وفق سياسة متدرجة لحساسية الأمر مجتمعيا، لذلك قررت إعادة تنظيم مراكز تحفيظ القرآن التي تعتبر أحد المنافذ لاستقطاب الشباب.
واعتاد السلفيون الاستثمار في أي ثغرة تحيط بالكتاتيب للسيطرة عليها، والتعامل معها كمساجد بديلة من خلال استمالة أكبر عدد من الأطفال والمراهقين والشباب تحت مبرر تحفيظ القرآن ثم تتحول الجلسات إلى ما يشبه الخطب الدينية التي يصبح فيها المحفّظ خطيبا ينشر ما يشاء من أفكار.
وفضّلت وزارة الأوقاف التي تدير المجال الدعوي في البلاد أن يكون التعامل مع المدارس القرآنية بعقلانية، فلا هي منعتها تماما أو تركتها في يد أي فصيل إسلامي، لأن المجتمع لن يقبل القضاء عليها، بحكم التعاطف مع الكتاتيب واعتبار المساس بها قد يحمل رسالة سلبية وقد يفسرها البعض على أنها حرب على الدين الإسلامي.
وفي ظل التوترات الإقليمية وعودة تيارات إسلامية متطرفة إلى المشهد السياسي في المنطقة، لا ترغب الحكومة في ترك الساحة لأي فصيل ديني يتسلل إلى المجتمع تحت غطاء دعوي مهما كانت النوايا والأهداف، وطالما تم إقصاء الإسلاميين من الخطابة والإمامة في المساجد فلا بديل عن نزع الكتاتيب من تحت أيديهم.
ومشكلة الأغلبية المجتمعية أنها تتعامل مع مراكز تحفيظ القرآن بالعاطفة الدينية من دون النظر إلى مآرب الفصيل الإسلامي الذي يتصدر مشهد رعاية هذه المراكز، خاصة السلفيين، ومع الوقت انحرفت الكثير من الكتاتيب عن دورها وتحولت إلى بؤر لجذب شريحة من الشباب في محاولة لضمهم إلى التيار السلفي.
ولم يكن ممكنا أمام الحكومة إلا الدخول في الملف بقوة لمنع احتكار السلفيين لمشهد تحفيظ القرآن، وكان ضروريا قبل أن تغلق الساحة عليهم كليا، أن تعوض غيابهم كي لا يتسلَّلوا بطرق ملتوية ويتخفون في أماكن بعيدة عن أعين الرقابة لاستقطاب الراغبين في تحفيظ وتفسير القرآن في زوايا المساجد والمنازل.
واعتاد بعض الشيوخ المنخرطين في تحفيظ القرآن تلميع التنظيم التابعين له وتشجيع المراهقين والشباب على الانضمام إليه، ووصل الأمر أحيانا إلى تقديم حوافز لمن يؤمنون بأفكاره ويلتزمون بتوجهاته، وهي إشكالية رأت معها الحكومة أهمية التدخل بعودة الكتاتيب بشكل تنظيمي وانتقاء العناصر المكلفة بعناية شديدة.
وخسر السلفيون المنابر التي اعتادوا النفاذ منها إلى الناس، ولم يعودوا خطباء وأئمة في المساجد التي تسيطر عليها وزارة الأوقاف، وسُحبت من شيوخهم تراخيص المشاركة في أي مجال دعوي، وتم التضييق عليهم أمنيا، حتى وجدوا في مدارس تحفيظ القرآن طريقا للتخفي في عباءة دينية مقبولة مجتمعيا.
ويرى مراقبون أن قرار وزارة الأوقاف بالتوسع في الكتاتيب داخل القرى والنجوع والمناطق العشوائية يعكس واقعية المواجهة مع السلفيين الذين ينتشرون في تلك المناطق بكثافة، ويتحركون بأريحية بعيدا عن أعين الرقابة مستغلين تراجع منسوب الوعي لدى سكان الريف، واللعب على وتر تدينهم الفطري وتقديسهم للكتاب.
وأكد الباحث والمتخصص في شؤون جماعات الإسلام السياسي أحمد سلطان أن إحياء الكتاتيب تحت رقابة وزارة الأوقاف ضربة للسلفيين الذين اعتادوا التعامل مع دور تحفيظ القرآن كوسيلة سهلة لاستقطاب الأشبال، أو على الأقل التسويق للتيار نفسه، عبر خطاب يدغدغ المشاعر ويلعب على وتر التدين الفطري.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن السيطرة على الكتاتيب تحت أعين الحكومة خطوة مهمة في ظل وجود مشكلة عند بعض الأجيال الحالية مرتبطة بتراجع الوعي أو الثقافة الدينية التي تؤهل صاحبها للفرز بين ما يقبله ويرفضه، وهو ما تلعب عليه بعض العناصر المتشددة لأفكارها وتوجهاتها للتسويق إلى التيار التابعة له.
وسيطرت وزارة الأوقاف على مراكز تحفيظ القرآن المنتشرة في مساجد الجمعيات الشرعية والأهلية التي قفز عليها السلفيون قبل الاستحواذ عليها من جانب الحكومة، وبينما حاولوا تقديم أنفسهم على أنهم الأساس في تحفيظ القرآن بشكل يتناغم مع السنة النبوية، استعانت الأوقاف بأزهريين مكانهم.
وظل الخطر في كتاتيب السلفيين، أن كل شيخ لا يكتفي بتحفيظ القرآن فقط، بل تمتد الجلسة إلى تفسير الآيات وفق رؤيته وأفكاره وقناعاته التي يؤمن بها، ويعتمد على التراث الفقهي، وينتهز الفرصة لتلقين طلابه ما يشاء، وإذا كان متشددا يزرع فيهم التشدد بسهولة معتمدا على نصوص تراثية تسوق لأفكاره.
وتدخلت الحكومة مدفوعة بحاجة سكان المناطق الريفية والشعبية إلى محفظين للقرآن بعيدا عن انتماءاتهم الفكرية، فهم لا يهتمون بكونهم سلفيين أو أزهريين أو أئمة مساجد، المهم أن يؤدون دورهم في التحفيظ، لا أن تُمنع الكتاتيب كليا تحت مبررات سياسية وأمنية أو كمحاولة للتضييق على المتشددين.
ويمكن قياس ذلك بالإقبال اللافت على الكتاتيب القرآنية التابعة لوزارة الأوقاف بعد قرار إحيائها مجددا، حيث شهدت الأيام الأولى كثافة في المشاركة من جانب أبناء الأسر، ما مثّل صدمة للسلفيين الذين اعتادوا تحصين مراكزهم القرآنية من التضييق الرسمي بدعوى أن الأهالي أنفسهم لن يقبلوا ببديل لهم تابع للحكومة.
وكان يمكن تقبل وجود مدارس قرآنية لبعض شيوخ السلفية الذين لا يخرجون عن هدف التحفيظ فقط، لكن تحول الكتاتيب السلفية بشكل تدريجي إلى مدارس تقدم تفسيرات واجتهادات منحرفة، سرع من تدخل الحكومة لمنع نشر الأفكار والتوجهات الشاذة والحيلولة دون تجنيد الشباب وتهديد مدنية الدولة.