مصر تعيد النظر في الخطاب الدعوي مستعينة ببحوث اجتماعية

الاجتهاد وانتقاء قضايا واقعية يغلقان الطريق على المتشددين.
الأربعاء 2025/06/04
تجاوز النمطية ضرورة عاجلة

في خطوة لتجديد الخطاب الديني، بدأت وزارة الأوقاف المصرية التعاون مع مراكز بحثية لتحديد مضمون الدعوة وفق احتياجات المجتمع. ويهدف التوجه الجديد إلى تجاوز النمطية، ومنح الأئمة مرونة في اختيار القضايا، بما يعيد صلة المساجد بالواقع ويواجه الخطاب المتشدد بخطاب مستنير ومعاصر.

القاهرة- قررت وزارة الأوقاف المصرية الاستعانة بمراكز بحثية وجنائية واجتماعية متخصصة في تحديد مضمون الخطاب الدعوي بما يتناسب مع احتياجات الناس، في توجه جديد يرمي لتبييض صورة أئمة يديرون شؤون الدعوة في المساجد، ليكون خطابهم ملائما لتطلعات مرتادي دور العبادة الذين سئموا من التكرار.

ويسمح هذا التوجه للمسؤولين عن الملف الدعوي داخل وزارة الأوقاف بانتقاء موضوعات وقضايا ملحة تعتمد على الاجتهاد والسماح للأئمة والخطباء بتنويع رؤاهم، حسب طبيعة كل منطقة وشواغل سكانها، ووفق ما تنتهي إليه البحوث التي تحدد طبيعة القضايا، وما يجب التركيز عليه وفق دراسات ميدانية.

واقتنعت وزارة الأوقاف بضرورة تسريع عملية محو الصورة الذهنية التي ترسخت عند البعض وتفيد بوجود تأميم للخطاب الدعوي، وباتت مدفوعة بتحسين المحتوى والطريقة التي يُقدم بها وتسمح بمزيد من الاجتهاد العلمي، لأن السيطرة على المساجد لا تكفي لمحاربة التطرف، بقدر ما تكون العبرة في تطوير مضامين الخطاب.

أحمد سلطان: السماح بالاجتهاد يقطع الطريق على أي فصيل متطرف
أحمد سلطان: السماح بالاجتهاد يقطع الطريق على أي فصيل متطرف

وظلت إشكالية الخطاب الدعوي مرتبطة بفرض مضمون موحد على مختلف الدعاة والوعاظ والأئمة في مصر، كثير منه لا يتناسب مع الفئات باختلاف طباعها وعاداتها وتقاليدها وثقافاتها، ويقوله الداعية المتخصص في مؤسسة دينية، مثل المسجد، في منطقة حضرية، ويردده زميله في منطقة نائية وريفية، ما جعل الخطاب الدعوي منفصلا عن الواقع.

وقادت تلك التوجهات إلى اعتياد الإمام والداعية على الاتكال، باعتباره يقول ما يُملى عليه، وتشوهت صورة كثير منهم لأنهم رددوا وجهة نظر حكومية بحتة، وتهاونوا في زيادة معارفهم بالمجتمع ومتطلباته، وصارت أغلب موضوعات الخطاب الدعوي نمطية، وهو ما قررت وزارة الأوقاف تغييره من خلال نتائج أبحاث اجتماعية.

وتكفي مطالعة فحوى خطب يوم الجمعة التي تنشرها وزارة الأوقاف للوقوف على نمطية الخطاب الدعوي الذي من النادر تطرقه إلى قضايا اجتماعية ملحة لزيادة تثقيف الناس بأمور حياتهم والتطرق إلى موضوعات، مثل الختان والطلاق والعلاقة الزوجية وتربية الأبناء واحترام المرأة والميراث وحرية العقيدة وغيرها.

وحسب المشاورات التي أجراها وزير الأوقاف أسامة الأزهري مع بعض المسؤولين في عدد من المراكز البحثية الاجتماعية، المجتمع بحاجة إلى خطاب مستنير يتناسب مع احتياجاته، بعيدا عن الرؤى الفقهية التي لا تتناسب مع انخفاض منسوب الوعي الثقافي في قضايا راهنة، ما يستدعي إعادة النظر في مضامين الخطاب الدعوي.

وتستهدف الخطوة تبصير الخطاب الديني بواقع التحديات الاجتماعية، حرصا على تحقيق مفاهيم التجديد والارتباط الوثيق بقضايا المجتمع واحتياجاته، مع رصد الظواهر السلبية في كل بيئة، وتوجيه الخطاب الديني إلى الوعي الكامل بها، ولا يكون الداعية والإمام والخطيب بمعزل عن احتياجات الناس ويتحرك وفق خطط مدروسة.

ويعد ضبط الخطاب الدعوي وفق البحوث الاجتماعية من صميم التجديد، ويوسع دائرة الاجتهاد المرتبط بالتحديات على الأرض، كما أن الخطوة دافع أمام صانع القرار المسؤول عن إدارة وتنظيم العمل الدعوي كي لا يفرض على الناس سماع ما تريد الحكومة قوله، ويصبح مضطرا لانتقاء موضوعات تهم شريحة كبيرة من الناس.

ويتسق ربط الخطاب الدعوي بنتائج الأبحاث مع رؤية وزير الأوقاف للمحتوى الديني بأنه لا يصلح تعميمه على جميع أقاليم الدولة، ومن المهم أن تكون لكل بيئة خطابها الذي يتوافق مع ظروف سكانها، وعكس ذلك تكريس جمود الخطاب الرسمي مقابل نشاط نظيره المتشدد الذي يعتمد أصحابه على كراهية الناس لكل ما هو نمطي.

حح

ويرى فريق مناصر لتوسيع مدارك الرؤى الفقهية بعيدا عن الخطاب الرسمي، أن زوال الأسباب التي على أساسها تم إلغاء الاجتهاد في الفقه الدعوي بالمساجد، يجب أن يوازيه محو الأثر المترتب عليها، لأن الخوف من المتشددين لم يعد كما كان، وسيطرتهم على المساجد محدودة للغاية، بالتالي يجب إعادة التنوع للخطاب الدعوي.

وطبقت مصر الخطبة الموحدة في المساجد عام 2016 بعد أن عانت البلاد من تطرف وإرهاب وتشدد استدعي ضبط أداء المساجد وعدم السماح لأي إمام أو خطيب أن يغرد خارج السرب وينتقي قضايا تتفق مع قناعاته السياسية، لكن الحكومة حاولت حماية الجمهور من أي مظاهر تطرف.

وجزء من التعامل الحكومي الحذر مع المساجد، أنه رغم ما يتعرض له الأئمة من انتقادات باعتبارهم لسان السلطة، لكنها أهم الساحات التي يمكن من خلالها التأثير على أفكار المواطنين وتوجهاتهم، وتمثل إحدى أدوات النظام في تشكيل وجدان الرأي العام لارتباط أغلبية السكان بتعاليم دينية يتم نشرها من خلال منابر ومجالس المساجد.

وهناك اتفاق بين متخصصين في الشؤون الدينية على أن عشوائية الخطاب الدعوي وابتعاده عن احتياجات الجمهور يدفع البعض للبحث عن بديل يناسبهم، وقد يكون هذا البديل شيوخ السلفية الذين يجيدون دغدغة المشاعر والتسلل إلى الشريحة التي تبغض الخطاب الرسمي الذي تتحكم فيه دوائر حكومية، والأئمة الرسميون يرددون عباراته.

ضبط الخطاب الدعوي وفق البحوث الاجتماعية يعد من صميم التجديد، ويوسع دائرة الاجتهاد المرتبط بالتحديات

وأكد الباحث في شؤون الإسلام السياسي أحمد سلطان أن الاعتماد على البحوث الاجتماعية في تطوير الخطاب الدعوي خطوة إيجابية، لأنها تمهد إلى منح الحرية المنضبطة للأئمة والدعاة في انتقاء موضوعات شعبوية بها قدر من التنوع والتناغم بين مضمون الخطاب ومتطلبات الناس، بل جمود يستفيد منه متشددون.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن المرونة في السماح بالاجتهاد وانتقاء قضايا واقعية تعيد الاعتبار للمساجد وتقطع الطريق على أي فصيل متطرف يحاول أن يتاجر بضعف الخطاب الديني الرسمي، لأن المجتمع بحاجة إلى فقه مستنير وهذا ما يجب استثماره بما يعيد للمساجد دورها في تشكيل وعي وسطي يخدم تجديد الخطاب الديني.

وتؤدي خطوة التعاون بين وزارة الأوقاف والمراكز البحثية إلى الحد بنسبة كبيرة من الخطاب الدعوي الذي ارتبط بقضايا اجتماعية لها جذور سياسية، مثل دعم التنمية ومساندة الدولة في التحديات وحشد الشارع خلفها والحث على زيادة التبرع للفقراء، وهي قضايا لها أبعاد سياسية، تثير حفيظة الجمهور وتضاعف الغضب من الأئمة.

وخرج موقف الأوقاف المصرية من رحم مطالبات برلمانية وحزبية وشعبية واسعة تتعلق بوضع حد لنمطية خطب المساجد والخطاب الوعظي بشكل عام، لأنه يصعب وجود قضايا ملحة مطروحة على الساحة ويأتي الإمام والخطيب والواعظ والداعية للحديث في سياق مغاير تماما، ليس له أي علاقة بالواقع الذي يعيشه المجتمع.

وتمهد مرونة الخطاب الدعوي لترميم العلاقة مع أبناء الجيل الجديد بالطريقة التي تجعلهم محصنين ضد الميل إلى تيارات متشددة اعتادت استغلالهم ومدهم بمعلومات دينية مشوهة حول قضايا تمس همومهم الحياتية، لأن الشباب في هذه المرحلة بحاجة إلى من يشبع ميولهم الدينية، بينما ظل الخطاب الدعوي خاضعا لرؤية حكومية ضيقة.

7