مصر تستعين بنظام دولي للبكالوريا

تواجه الحكومة المصرية صعوبة في إصلاح التعليم، حيث قررت إلغاء النظام الجديد الذي كان قد تم إقراره منذ عدة أشهر لمرحلة الثانوية العامة (البكالوريا)، واستبداله بمنظومة جديدة تحمل اسم "البكالوريا المصرية" وهي مزيج بين طريقة الدراسة المعتمدة في الشهادة بالولايات المتحدة وبريطانيا، وقد قوبل بانتقادات واعتراضات من قبل المعلمين وأولياء الأمور.
القاهرة- بعد مرور أقل من أربعة أشهر على إطلاق نظام جديد لمرحلة الثانوية العامة (البكالوريا) في مصر، قررت الحكومة نسف كل ذلك مرة واحدة، وإقرار منظومة مغايرة، يبدأ تطبيقها في العام الدراسي المقبل، وتحمل اسم “البكالوريا المصرية”، وهي مزيج بين طريقة الدراسة في الشهادة الأميركية ونظيرتها البريطانية.
وتعتمد المنظومة الجديدة التي وافقت عليها الحكومة بشكل مبدئي، الأربعاء الماضي، على إلغاء تقسيم التخصصات الدراسية ما بين “علمي وأدبي”، لتكون هناك أربعة مسارات مختلفة، يختار الطالب أحدها، ما يؤهله للالتحاق بالجامعة التي يرغب فيها، مع إعادة نظام تحسين الدرجات الذي أُلغي خلال تسعينات القرن الماضي.
وبينما كانت الحكومة تأمل في ترضية الرأي العام بنظام جديد للمرحلة الثانوية، جلبت على نفسها غضبا واسعا من معلمين وأكاديميين وأولياء أمور ومعلمين، لأنها أعلنت قبل أشهر قليلة عن تغييرات في مرحلة البكالوريا قالت إنها مطابقة للمعايير الدولية في أفضل نظم التعليم العالمية، ثم قررت التغيير مجددا.
وتقوم فلسفة المنظومة المقرر تطبيقها العام المقبل على أن يدرس الطالب في الصف الأول سبع مواد عامة، بينما يبدأ التخصص من الصف الثاني ليختار ما بين المسار الطبي، أو الهندسي، أو الأعمال، أو الفنون والآداب، ويدرس في كل تخصص أربع مواد، وفي الصف الثالث يدرس ثلاث فقط، كما البكالوريا الدولية تقريبا.
وقررت الحكومة، ولأول مرة منذ تسعينات القرن الماضي، إعادة مادة التربية الدينية ضمن المجموع الأساسي للطالب في الثانوية العامة، لتكون مادة أساسية في الصفوف الثلاثة، بعد زيارات عدة قام بها وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف إلى شيخ الأزهر وبابا الكنيسة للتوافق حول شكل منهج التربية الدينية للمسلمين والمسيحيين.
يرتبط غضب المعلمين من النظام الجديد في كونه كرس تهميش بعض المواد التخصصية، مثل علم النفس والاجتماع، والجغرافيا، وإلغاء مادتي اللغة العربية والإنجليزية في الصف الثالث، بينما أظهر أولياء الأمور مقاومة شديدة للمنظومة لأنها في نظرهم سوف تضيف المزيد من الأعباء المالية عليهم.
وقررت وزارة التعليم تقسيم مجموع الطالب المؤهل للجامعة على عامين وليس عاما واحدا كما هو مطبق حاليا، حيث أعادت النظام الذي كان موجودا قبل 12 عاما، عندما كانت البكالوريا مقسمة على الصفين الثاني والثالث، وتضاف درجاتهما معا، ومن خلال المجموع النهائي للعامين يلتحق الطالب بالجامعة.
وكانت هذه فكرة قديمة تحدث عنها وزير التعليم الأسبق طارق شوقي، لكن مجلس النواب رفضها بالإجماع، عقب تصاعد غضب أولياء الأمور، وخوف الحكومة من الدخول في صدام مع بعض الأسر، غير أنها أعادتها مرة أخرى مع الوزير الحالي بما يوحي أن الحكومة مصرة على التطبيق دون اكتراث لتذمر بعض المواطنين.
وأكد الخبير في مجال التعليم وائل كامل أن استمرار التعامل مع تطوير البكالوريا بطريقة الحذف والإضافة يعبّر عن أزمة حقيقية يتم تغليفها بالتطوير المستمر، والمشكلة أن أي جهة لا تتناقش ولا تستمع إلى رأي المختصين ما تسبب في حالة ارتباك كبيرة، فالاستعانة ببكالوريا دولية لن يصلح الواقع.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الحكومة لم تقم بتقييم البكالوريا التي أعلنتها قبل أسابيع لتوافق على بكالوريا جديدة، ثم تنزعج من وجود مقاومة للتغيير، فلا يمكن مفاجأة الناس بإجراءات تمس أولادهم ومستقبلهم، ولا يتم شرحها للناس، ومعرفة خلفياتها وآليات تطبيقها، وإيجابياتها وسلبياتها.
ويقاوم الكثير من أولياء الأمور تلك الفكرة من منطلق أن الطالب سوف يتحصل على دروس خصوصية مكثفة خلال عامين بدلا من سنة واحدة، كما الموجود حاليا، مع أن الظروف الاقتصادية في مصر لا تسمح بفاتورة مضاعفة على التعليم، بينما تبرر الحكومة قرارها بأن ذلك سوف يريح الطالب ويرفع الضغوط عنه.
وتصنف المرحلة الثانوية في مصر على أنها “بعبع” (شيء مخيف) يخشاه الجميع، لأنها العمود الفقري لمرحلة التعليم قبل الجامعي، والوحيدة التي تؤهل الطالب لدخول الجامعة، وينظر إليها الملايين من المواطنين على أنها البوابة التي تصل بالطالب إلى تحقيق حلمه الجامعي أو ينحدر إلى كلية متواضعة أو معهد متوسط.
ويرى خبراء تربويون أن تكرار التغيير في مرحلة البكالوريا على فترات متقاربة يعبّر عن تخبط وعدم وجود خطة ثابتة للتعليم المصري، وكل وزير يأتي بفكرة مختلفة عن سابقه، بشكل دفع أولياء الأمور إلى مقاومة أيّ تغيير ولو كان إيجابيا لشعورهم بأن أولادهم أصبحوا أشبه بفئران تجارب.
وأوضح الأكاديمي وائل كامل لـ”العرب” أن النظام القائم في البكالوريا مرفوض من كثيرين، والجديد عليه تحفظات كثيرة، وهذا ليس عيبا في المعلمين أو أولياء الأمور والمتخصصين، لكن المشكلة أن التغيير المستمر في غياب خطة يعبر عن غياب الرؤية، وهذا إرث ثقيل من غياب الثقة ويجب أن تتعامل مع الحكومة بحكمة وعقلانية.
قررت الحكومة إجراء حوار مجتمعي موسع حول المنظومة الجديدة للبكالوريا، لكن ثمة شواهد عديدة توحي بأن الحوار بات شماعة لتمرير القرارات والسياسات التي ترغب فيها الحكومة، بمعنى أنها تكون حسمت أمرها في التطبيق لكنها تحتمي في جلسات حوارية شكلية لا تأخذ بتوصياتها.
وهناك فريق عقلاني يدعم التغييرات التي أقدمت عليها الحكومة، لأنها استعانت بتجارب دولية ناجحة، مثل ما يوجد في أميركا وبريطانيا، من حيث انخفاض عدد المواد التخصصية، وإدخال مسارات تواكب سوق العمل المستقبلي، مع إتاحة الفرصة أمام الطالب لدخول أكثر من محاولة امتحانية في العام.
ويرتبط رفض شريحة من أرباب الأسر لذلك المسار بأن الحكومة ترغب في دفع الطالب مبلغا ماليا بقيمة خمسمئة جنية (10 دولارات) نظير تحسين درجاته في المادة الواحدة، أي أنه سيحتاج إلى ألفي جنيه (40 دولارا) في المواد المختلفة، بما قد يجعل أبناء محدودي الدخل محرومين من تلك الميزة.
وفي رأي الخبراء لا يجب أن يرتبط التعليم أو طريقة النجاح والحصول على درجات أعلى بالقدرة المالية للأسرة، لأن ذلك يجعل التعليم سلعة لمن يستطيع الدفع، بما يتناقض مع أبسط قواعد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ويمهد إلى رفع الحكومة يديها عن التعليم بشكل تدريجي.
وتبرر وزارة التعليم موقفها بأن الطالب سيدخل كل عام الامتحان مرتين، الأولى على نفقة الدولة، والثانية على حسابه عندما يختار تحسين درجاته، وعليه دفع مقابل تكلفة الامتحان من وضع للأسئلة إلى تصويرها ونقلها إلى اللجان وتأمينها ثم تصحيح الإجابات، وكل ذلك له تكلفة.
ويكشف الخلاف المادي بين الشارع والحكومة على تكلفة البكالوريا الجديدة عن تراجع منسوب الثقة، فالكثير من أولياء الأمور لديهم استعداد لدفع مبالغ مالية كبيرة نظير الحصول على دروس خاصة طوال العام، لكن لا يدفعون للحكومة مقابلا ماديا ولو كان أولادهم هم من يستفيدون من الخدمة.
وأمام الشد والجذب المتواصل حول أولويات وشكل تطوير المرحلة الثانوية، اتسعت الهوة مع الحكومة لأنها مقتنعة بوجود مقاومة لكل ما يستهدف إصلاح البكالوريا، وتغفل حق الناس في النقاش حول كل جزئية طالما تمس مصير الآلاف من الطلاب الذين تتعامل أسرهم مع التعليم كأولوية تتخطى الاهتمام برغيف الخبز.
وبقطع النظر عمّا سيؤول إليه الحوار المجتمعي حول البكالوريا الجديدة، من المؤكد أنها سوف تطبق لا محالة، لأنها تعبّر عن رؤية نظام وليس حكومة، وسبق عرضها من قبل خلال وزيرين سابقين ولم يُكتب لها النجاح، ما يمهد إلى تفعيلها على الأرض كي تتخلص السلطة من “بعبع” الثانوية إلى الأبد.
ويتمسك النظام المصري بإصلاح البكالوريا عبر تطبيق نظام دولي، لأن التركيبة المحلية مازالت تصدّر أزمات سياسية بخلفيات اجتماعية، ومن السهل أن تغطي على أيّ نجاح تنموي، لكن تظل المعضلة في آلية التطبيق وعشوائية التحرك، بما يجلب مقاومة شعبية واسعة ضد أيّ خطة لمحاولات الإصلاح.
ويبدو أن الحكومة أدركت أنها مهما فعلت من إيجابيات في قطاعات تنموية وأخرى خدمية، وبقيت أمراض المنظومة التعليمية، خاصة في مرحلة البكالوريا، فإن السخط الشعبي لن يتوقف ضدها، ولا بد من توافر إرادة سياسية لتطوير هذا الملف إذا كانت لديها رؤية جادة لوقف توحد المؤيدين والمعارضين ضدها.