مصر تحاصر الإسلاميين خشية تداعيات تهديدات الأمن الفكري

تحرّك مجلس النواب المصري لإحياء مشروع قانون تجريم الفتاوى العشوائية يكشف عن تصعيد جديد في مواجهة الدولة للتيارات الإسلامية، في محاولة لاحتواء الفوضى الدينية التي تهدد الأمن الفكري. ويأتي هذا التوجه في ظل توافق نادر بين المؤسسات الدينية، ورغبة رسمية في سد منافذ التطرّف ومنع الإسلاميين، خصوصاً السلفيين، من تقديم أنفسهم بديلاً عن المؤسسة الدينية الرسمية.
القاهرة - أكد توجه مجلس النواب المصري نحو تحريك المياه الراكدة في قانون تجريم الفتاوى العشوائية رغبة السلطة في زيادة الحصار المفروض على الإسلاميين، خشية تداعيات سياسية تهدد الأمن الفكري في المجتمع، وغالبا ما يكون مصدرها رؤى متشددة تتعامل معها شريحة من المواطنين بقدسية، وتمثل خطرا على العقل المجتمعي، بما يطيل أمد المواجهة بين الأمن والتيارات المتطرفة.
وتقرر بدء مناقشة مشروع قانون تجريم الفتاوى من غير المتخصصين بعد فترة جمود استمرت سنوات، كانت تخشى فيها الحكومة من أن تدخل في صدام مع روافد جماعة الإخوان ورواسب السلفيين، حتى شعرت بخطورة استمرار الوضع الراهن في ظل ظروف إقليمية معقدة، تسعى تيارات إسلامية للاستفادة منها من أجل تعزيز نفوذها وشعبيتها في الشارع المصري، على أمل أن تعيد تشكيل قواها مجددا.
ولا يخلو التحرك البرلماني المصري من وجود مخاوف كامنة منذ وصول إسلاميين إلى الحكم في سوريا، ولذلك تسعى الحكومة لتوسيع دائرة المواجهة مع التطرف الفكري، مستغلة حالة الرفض المجتمعي الموجودة بشكل واضح عند الأغلبية السكانية ضد ما حدث في سوريا، ولأن أيّ تشريع يستهدف تقييد الفتوى وعدم تركها مستباحة يحتاج إلى تأييد شرائح كانت تتعامل مع فتاوى الشيوخ بتقدير.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن الحكومة لن تواجه ممانعات شعبية لتقييد الفتاوى وتجريم العشوائي منها، في ظل ارتفاع منسوب الكراهية عند أغلب المصريين لكل ما يرتبط بالإسلام السياسي والمتاجرة بالدين لتحقيق أهداف مشبوهة، وهو ما يستفيد منه مجلس النواب لإنجاز مشروع القانون في أقرب وقت لتتولى الأجهزة الأمنية مهمة قصقصة ما تبقى من أجنحة للإسلاميين الذين يستقطبون الناس بالفتوى.
وجزء من التسريع البرلماني لإنجاز قانون الفتاوى يعود إلى أن دوائر النظام تشعر بأن السلفيين يجاهدون بشتى السُبل لإيجاد ملامح للدولة الدينية، بحجة أن الدستور ينص على أن الإسلام مصدر التشريعات، دون اكتراث بأن الرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه لديه موقف صارم من تشويه صورة الدولة المدنية أو إقحام الدين في حياة الناس، ويُعادي أي وجود للإسلام السياسي في المشهد.
ودأبت السلطة في مصر على محاصرة السلفيين وإقصائهم كليا، لكنها أصبحت تشعر بخطورتهم على الاستقرار السياسي والمجتمعي بالإصرار على تصعيد حدة الاستقطاب كل فترة من خلال بث فتاوى متشددة تُحرج أجهزة الدولة وتتهم بعض دوائرها بأنها تمنح حرية الحركة لإسلاميين كجزء من الديكور السياسي، وهي إشكالية دفعت الحكومة لتحريك قانون الفتاوى المجمد في البرلمان.
ويحمل التوجه نحو تجريم فتاوى غير المتحصصين بالأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف تغيرا في علاقة النظام المصري بالسلفيين، فهذه هي المرة الأولى التي تتفق فيها المؤسسات الدينية الثلاث على مواجهة فوضى الفتاوى كملف يمثل خطورة على الأمن الفكري بما له من ارتدادات سياسية وأمنية في توقيت يستدعي غلق منافذ الفتنة.
ومن شأن تجريم فتاوى غير المتخصصين أن يؤدي إلى حبس كل من يُصدر رأيا دينيا من خارج القائمة المحدد لها إصدار الفتوى، وهي رسالة ترهيب صارمة لأي فصيل إسلامي يجرؤ على تقديم نفسه كبديل عن المؤسسة الدينية الرسمية، وإشارة المقصودون منها السلفيون بشكل خاص، لأنهم يتعمدون منذ ثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت بنظام حكم الإخوان تقديم أنفسهم باعتبارهم الظهير الديني للنظام.
وباتت الظروف السياسية في مصر مواتية للخلاص مما تبقى من الإسلاميين، وهناك حالة التفاف شعبي واضحة خلف النظام جراء التحديات الخارجية المتسارعة والمرتبطة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها على الأمن القومي المصري، والميزة الأكبر أن المؤسسات الدينية الرسمية الثلاث لديها اتفاق على رفع الغطاء السياسي عن أي فصيل يسعى إلى أن يحل مكانها، ولو بالفتوى.
وظل مشروع قانون تجريم الفتاوى معطلا منذ عام 2021 بسبب صراعات خفية بين الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، لتمسك كل طرف بأن تكون له الكلمة العليا في ملف الفتوى، وهو ما تعاملت معه الحكومة بعقلانية وتغيير قادة الصفوف الأولى في الأوقاف ودار الإفتاء والاستعانة بأزهريين فيهما، وصار هناك قدر من التوافق على دعم النظام في محاربة كل من لهم توجهات إسلامية.

والخطر السياسي من فتاوى السلفيين يكمن في أنها تقدم خدمة مجانية للإخوان وإن غابوا عن المشهد خشية الملاحقات الأمنية، لأنهم يوظفون رؤى التيار السلفي لتجييش الرأي العام ضد السلطة والضغط عليها لتطبيق الشرع والتمرد على القوانين المدنية، وتلك إشكالية معقدة يصعب على المؤسسات الدينية الحد من آثارها دون أن تكون هناك صرامة أمنية تتحصن بقانون يحمي تحركاتها.
كما أن تحقيق الأمن الفكري بالطريقة التي تأملها السلطات المصرية لا يأتي عبر إقصاء غير المتخصصين في الفتوى فقط، بقدر ما يرتبط الأمر بتغير نظرة الناس لرأي رجال الدين والكف عن التعامل مع الفتاوى باعتبارها الدستور الذي يسيرون عليه ولا يحيدون عنه، وهناك مدمنون لها من شرائح مختلفة، ويكفي أن دار الإفتاء كل عام تتفاخر بأنها أصدرت أكثر من مليون فتوى.
وقال الكاتب المصري خالد منتصر إن التساهل مع سلفنة المزاج الشعبي خطر سياسي وفكري، وتجريم الفتاوى الفوضوية ضرورة لتأكيد مدنية الدولة، وهذا لا يعني ترك المؤسسات الدينية تستبيح الفتوى وتتحكم في عقول الناس، لأن تسيير حياة المجتمع بالفتوى بعيدا عن العقل والقانون خطر على الأمن الفكري، بالتالي فالمشكلة أكبر من مجرد إسكات أصحاب الرؤى المتشددة.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن تكريس الأمن الفكري ينطلق من إعلاء مدنية الدولة، بحيث يصبح العقل المجتمعي مدنيا، ومن المهم وجود إرادة لتثبيت المدنية كمدخل لتكريس الهوية والقضاء على رواسب الإسلام السياسي، والكف عن ثقافة الحلال والحرام في كل شيء، وعدم إقحام الدين في كل مفردة حياتية، ولا يجب أن تكون جهات الفتوى أكثر استسهالا من التيارات الإسلامية في الفتاوى.
وأصبحت علاقة المصريين بالفتوى أقرب إلى الإدمان، سواء تلك التي تصدر عن متخصصين أو متشددين، ما ترتب عليه تغييب عقول الكثير من المواطنين، الذين يتعاملون مع الفتاوى كملاذ آمن، بعيدا عن كونهم أميين أو متعلمين، لكنهم يتساوون في تسليم عقولهم لرجال الدين ليرشدوهم إلى الصواب، وهي إشكالية يراها البعض أكثر خطرا على الأمن الفكري من الفتاوى المتشددة.
وإذا استمرت الفتوى أقوى من القانون المدني فلا قيمة لتجريمها بدعوى أنها صدرت عن غير متخصصين، لأن عدم تدخل الحكومة لترشيد الفتاوى يضع الدولة المدنية على المحك، مقابل التحول التدريجي إلى الدولة الدينية بما يخدم المتشددين في تكوين شعبية لهم، وتصبح الساحة معركة بين الفتوى الرسمية والعشوائية ليهتز الأمن الفكري بشكل يهدد الأمن الداخلي للبلاد.