مصالح الفرقاء والتدخلات الخارجية تعرقلان مسار المصالحة الوطنية في ليبيا

عكس قرار رفض المجلس الرئاسي في ليبيا لمخرجات جلسة مجلس النواب الليبي في بنغازي بشأن مشروع قانون المصالحة الوطنية في البلاد، حالة من عدم التوافق بين الفرقاء الليبيين لتجاوز حالة الانقسام السياسي وتوحيد مؤسسات الدولة القائمة منذ سنوات.
رفض المجلس الرئاسي في ليبيا الاعتراف بنتائج الجلسة التي عقدها مجلس النواب الثلاثاء الماضي، وصادق خلالها على مشروع قانون المصالحة الوطنية، وهو ما يمثل ضربة جديدة للجهود المبذولة من أجل تقريب المسافات وتجاوز حالة الانقسام بين الفرقاء الأساسيين في غرب البلاد وشرقها. وقال المجلس الرئاسي إنه كان يأمل في التعامل مع المشروع “بروح المسؤولية الوطنية بعيدا عن التسييس،” إلا أن الجلسة “خالفت هذه التطلعات وزادت من تعقيد المسار.”
ودعا في بيان، إلى الالتزام بالاتفاق السياسي كأساس شرعي لتنظيم عمل المؤسسات السياسية وتنسيق اختصاصاتها لتجنب النزاعات وفرض الأمر الواقع، مؤكدا أنه تعامل في ملف المصالحة بشفافية ومهنية ليبية خالصة، وأن المشروع حظي بإشادة دولية قبل إحالته إلى مجلس النواب منذ أكثر من عام، بعد إعداده وفق معايير مهنية ومرجعيات وطنية لضمان حقوق جميع الأطراف وتعزيز فرص المصالحة، وفق نص البيان.
وأكد المجلس الرئاسي على “أهمية تجنب القرارات الأحادية التي تقوض الشراكة الوطنية وتؤثر سلبا على أمن واستقرار البلاد”، مشيرا إلى أنه “سيواصل حماية هذا المشروع الوطني وضمان مساره الصحيح.”
◙ المجلس الرئاسي لم يستطع الخروج من دائرة الوصاية السياسية نتيجة خضوعه لهيمنة تيارات متشددة وأمراء حرب
وثمّن المجلس جهود الجهات الوطنية والشخصيات العامة التي أسهمت في المشروع، وبالدور الإيجابي للاتحاد الأفريقي وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وطالب جميع الأطراف المتداخلة بالقيام بدورهما بحيادية، معربا عن تطلعه إلى استمرار الجميع في دعم المشروع للوصول إلى مصالحة شاملة، لأن إنجاحه يتطلب تعاون كافة الأطراف لإرساء العدالة والسلم الأهلي بعيدا عن خطوات قد تعرقل المسار وتبدد آمال الليبيين في مستقبل مستقر وموحد.
والثلاثاء الماضي، أعلن مجلس النواب من مقر انعقاده في بنغازي إقرار مشروع قانون المصالحة الوطنية بغالبية الأصوات، وذلك بعد جلسة قدّم خلالها النواب عددا من الملاحظات ومقترحات للتعديل على المشروع المقدم من المجلس الرئاسي في فبراير 2024، وهو ما يتنافى مع دعوة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في نوفمبر الماضي، إلى إقرار المشروع دون إجراء أيّ تعديلات، وفي جلسة شفافة صحيحة الانعقاد.
وفي العاشر من ديسمبر الماضي، قالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إنها نظمت بمعية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تونس اجتماعًا ضم ممثلين عن المجلس الرئاسي ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بالإضافة إلى خبراء قانونيين، لمناقشة مسودة قانون المصالحة المقدمة من قبل المجلس الرئاسي، وأضافت إن الحاضرين تناولوا “أحدث التعديلات المقترحة من مجلس النواب،” وأكدوا “أهمية وضع آليات تضمن الشفافية والإنصاف، بما يستجيب لتطلعات الضحايا ويعزز المصالحة المبنية على أسس حقوقية في ليبيا.”
كما ناقش المشاركون “ضمان استقلالية المفوضية الوطنية للمصالحة المستقبلية، مع التأكيد على أن اختيار أعضائها يجب أن يجري من خلال عملية تشاركية وشفافة.” كما تناولت النقاشات الأحكام المتعلقة بالعفو المشروط، وآليات حماية الضحايا والشهود، بحسب البعثة. وأكدت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والشركاء المحليون والدوليون، التزامهم بدعم عملية عدالة انتقالية شاملة في ليبيا، بما يعزز الاستقرار والسلام المستدام في البلاد.
وكان المجلس الرئاسي أعلن في أبريل 2021 تشكيل هيئة وطنية للمصالحة الليبية وقال المنفي إن الأمر يتعلق بـ”مشروع حقيقي” من أجل المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الليبي. وأضاف أن “هذه بداية المصالحة الحقيقية،” مشيرا إلى أن هيئة المصالحة الوطنية “لن تكون تحت أيّ وصاية سياسية،” مشددا على أن “مشروع المصالحة يتطلب عملا منظما وخطة واضحة وجدولا زمنيا محددا.”
وبحسب مراقبين، فإن المجلس الرئاسي لم يستطع الخروج من دائرة الوصاية السياسية نتيجة خضوعه لهيمنة تيارات متشددة وأمراء حرب ومستفيدين من استمرار الوضع على ما هو عليه، وكذلك للتدخلات الإقليمية والدولية التي لا تزال تراهن على نموذج التفرقة بين الليبيين كأساس لبسط النفوذ على مراكز القرار سواء في طرابلس أوفي بنغازي.
ويرى المراقبون أن المشهد السياسي الليبي العام لا يزال غير مستعد لتفعيل مبدأ المصالحة الذي يجب أن ينطلق من المسؤولين أنفسهم، حيث أن القادة السياسيين والمسؤولين التنفيذيين في طرابلس وبنغازي لا يزالون رافضين للاجتماع حول طاولة الحوار، وهم لا يعترفون ببعضهم البعض، ما يجعل الحديث عن إمكانية أن ينجحوا في تحقيق مصالحة بين الليبيين، مجرد عبث غير قابل للنقاش.
وكان ممثلو سيف الإسلام القذافي وقيادة الجيش أعلنوا انسحابهم من الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر الوطني الجامع للمصالحة الذي كان من المقرر عقده في أبريل الماضي بمدينة سرت قبل تأجيله دون تحديد موعد لاحق، وأرجعت أوساط اجتماعية السبب إلى ارتهان المجلس الرئاسي إلى سلطة الميليشيات وعجزه عن الإيفاء بتعهداته وخاصة في ما يتعلق بالإفراج عن السجناء السياسيين من رموز النظام السابق الذين لا يزالون قابعين في سجون طرابلس ومصراتة منذ العام 2011 من دون محاكمة.
ويرى ملاحظون أن، الخلافات الحزبية والأيديولوجية وحالة الانقسام الحكومي والعسكري انعكست سلبا على ملف المصالحة حيث بات كل طرف يحاول الاستقواء بأنصاره وتابعيه، وفي مفتتح يناير الجاري طالب ملتقى الأعيان والمشائخ والحكماء بطرابلس، البعثة الأممية في ليبيا ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي بالوقوف مع المجلس الرئاسي ودعمه في سبيل تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة. ودعا الملتقي المجلس الرئاسي إلى تفعيل دور المفوضية الوطنية للمصالحة ودعمها وتسمية أعضائها، معتبرا أن ملف المصالحة الوطنية والإشراف على الانتخابات وصفة القائد الأعلى للجيش الليبي من اختصاص المجلس الرئاسي، كما تم الاتفاق عليه بمؤتمر جنيف سنة 2021، وأن المصالحة الوطنية هي مصالحة سياسية للوصول إلى الاتفاق على قيادة وإدارة موحدة للدولة،” بينما أكد عضو المجلس الرئاسي المكلف بملف المصالحة عبدالله اللافي أن الملف الذي وصل مراحل متقدمة واجهته العديد من التحديات والصعوبات، مشيرا إلى عقد العديد من الملتقيات في كل المدن الليبية التي أكدت الخطوات العملية التي اتخذها المجلس الرئاسي لإنجاح المشروع حتى وصوله إلى إعداده قانون المصالحة الوطنية من قبل الخبراء الليبيين المختصين في المجال القانوني، باعتباره ملكية وطنية للشعب الليبي، وإحالته إلى مجلس النواب للاعتماد منذ شهر يناير 2024، مشددا على أهمية الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال.
ويرى مهتمون بالشأن الليبي أن التدخات الإقليمية والدولية تساهم بدور كبير في تأجيل حسم ملف المصالحة رغم مرور أكثر من 13 عاما على الإطاحة بالنظام السابق، وأن تلك التدخلات لا تزال تعمل على عرقلة الحل السياسي والحؤول دون التوصل إلى موعد لتنظيم الانتخابات، وذلك بسبب مؤشرات الخارطة السياسية في البلاد، وما قد تفرزه من ملامح لوجه ليبيا المستقبل، لا تنسجم مع طموحات بعض القوى الفاعلة حاليا على الميدان.